يقول الناقد يوزيبو رودريكو (كتاب "وليم فوكنر في صخبه وعنفه") إن فوكنر قد تلبّسته المواد التي يحملها، وإن ذاته المبدعة تعذّبت، وقد وجد أن الشكل الروائي المتوفّر بين يديه لم يعد قادراً على التعبير عن قلقه. ولهذا فإنه قد اخترع شكلاً كي يدسّ داخله عالَمَه كلّه. وسوف يعترف التاريخ الأدبي به، ويقر "اختراعه" بوصفه إنجازاً روائياً جديداً يُضاف إلى تاريخ الرواية.
اللافت هو أن الناقد يستخدم تعبير "حطّم الشكل"، وقد لاحظ أن أمر فوكنر كان وصل من قبل إلى دوستويفسكي، وإلى جيمس جويس، بينما يذكر غيرُه أن مارسيل بروست ينتمي أيضاً إلى العائلة ذاتها. فكلّ واحد من هؤلاء كان إنجازه الأساسي، في سياق عمله، تحطيم الشكل الروائي الذي كان سائداً قبل أن يكتب. وسوف نرى في سياق الرواية العالمية أن تحطيم الشكل ليس تخريباً، بل جديدٌ مختلف يقدّم لنا أعمالاً مثل "الصخب والعنف" أو "الإخوة كارامازوف" أو "يوليسيس".
لماذا يحطّم الروائيُّ الشكلَ الروائي؟ الحقيقة أنّ كلّ ناقد من أولئك النقّاد الذين تحدّثوا عن هذا الإجراء كان يفسّره بالقول إن الحاجة إلى المعنى هي التي كانت تستلزم تجاوز الشكل السائد. فالحاجة إلى المعنى هي التي تقود الروائي إلى البحث عن صيغة جديدة للتعبير، إذ لا يمكن السيطرة على المعنى الجديد دون شكل ملائم يقدّم لنا اقتراحات جديدة تماماً في مجال الإبداع لم تكن موجودة من قبل، أي من قبل أن يتمّ تحطيم السائد والثابت الذي يتّسم بالجمود.
أكثرية البشر يستصغرون شأن الشكل ويقلّلون من أهمّيته
ومع ذلك فإن الشكل مظلومٌ في أكثر الثقافات، وفي الغالب أن أكثرية البشر يستصغرون شأنه، ويقلّلون من أهمّيته. بل إن من بينهم مَن يستسهل السطو عليه، بينما يمسك بين يديه مضموناً قوياً مستريحاً ينتظر مَن يقدّم له خدمة العرض المناسب، وقد نال المعنى أو المضمون احتراماً كاد أن يصل إلى حدود التقديس. وربما كانت سهولة السطو على الشكل ـ وهو نشاط آخر يتّسم بالكسل والبلادة ـ في ظلّ غياب المحاسبة النقدية (السلمية طبعاً) هي التي تتسبّب بهذه الغارات المتتالية التي تُشنّ اليوم على الأشكال الأدبية.
لكن الشكل ماهرٌ في نهاية الأمر. ويمكن استعارة التوضيحات من حقل آخر، فالثورات مثلاً تستهدف شكل الأنظمة القائمة كي تأتي بشكل جديد يستوعب الأهداف والتطلّعات الجديدة، ومن غير الممكن الاستيلاء على سلطة، وإنشاء سلطة مختلفة، دون تحطيم شكلها.
فإذا تقاعستْ عن تحطيم الشكل، كما تقاعس ثوّار كومونة باريس، بحسب ماركس، فلم يحطّموا شكل الدولة التي استولوا عليها، فإنك سوف تدفع الثمن، كما دفعوه. وإذا استوليت على الشكل القديم، بينما كنتَ تحمل مشروعاً للبناء في الرواية، كما في الحياة نفسها، فإن العواقب سوف تبدأ من السطحية والتفاهة والاستهتار بالكتابة الروائية، كما في هذه البضائع الروائية التي نراها. وقد ينتهي الأمر إلى الكارثة كما هو حال الثورات العربية وغير العربية التي نسيتْ، بل تجاهلت، تحطيم شكل الدولة البوليسية التي استولت عليها.
* روائي من سورية