تحدّيات الأدب

23 فبراير 2024
منزلٌ في أوديسا الأوكرانية يُعتقد أنّ غوغول سكنه في خمسينيات القرن التاسع عشر (Getty)
+ الخط -

ما عدد الشخصيات الروائية الخالدة في التاريخ الأدبي؟

في الغالب العدد قليل، والقلّة هنا محسوبة على عدد الروايات التي صدرت في العالَم كلّة، منذ أن بدأت الرواية الفنّية قبل بضعة قرون حتى اليوم. فمنذ بداية القرن التاسع عشر إلى اليوم، لم تُقدّم الرواية الروسية أكثر من ثلاث أو أربع شخصيات خالدة: راسكولينكوف، وأكاكي أكاكيفيتش، والأمير أندريه، والإخوة كارامازوف. الباقون عاشوا على الهامش.

ولم يتمكّن كاتب مثل غوركي من ابتكار شخصية أدبية لامعة قادرة على العيش في الزمن، ولم تُكتب الحياة لشخصية "بافل" في رواية "الأم" إلّا في نظر الشيوعيّين، ومع ذلك فإنّه يكاد يختفي من تاريخ الأدب، ومن ذاكرة الشيوعيّين.

ولم يُقدّم الأدب الفرنسي أكثر من ذلك في القرن التاسع عشر، مثل الأب غوريو لبلزاك، ومدام بوفاري لفلوبير، وجوليان سوريل لستندال. هل يقترح أحدٌ آخَر علينا شخصية خالدة من أدب زولا مثلاً؟ وإذا كان شكسبير قد خلق كلّ تلك الشخصيات العظيمة، فنحن أمام أربعمئة عام من الكتابة، ولم يُقدّم المسرح الإنكليزي نفسه شخصيات أكثر عظَمة من شخصيات شكسبير، لا في الرواية، ولا في المسرح.

لا تُكتب الرواية العظيمة بسهولة ولا تُخلق الشخصية الخالدة بقرار

ولهذا، من النافل أن يوضع الأدب العربي في تنافس مع هذه الآداب، ضمن هذا السياق وهذه الفكرة، كما يرغب منتقدوه اليوم، ممّن يعانون من عقدة نقص أدبية، أو ممّن يعملون على تقزيمه، في حالة من الاستسلام القدري المهين لسيطرة النموذج الغربي، وتجاهل، أو جهل، بما قدّمت الرواية العربية.

وإذا كانت تلك الآداب العريقة لم تتمكّن من خَلْق أكثر من بضع شخصيات في مئتَي عام، أو أكثر، فإنّ التقدّم بمثل هذه الطلبات من آداب فتية يصبح أمراً مبالغاً به.

لا يشعر اليابانيون، كما أتصوّر، بأيّة عقدة من أنّ الثقافة العالمية لم تستعر حتى اليوم أيّة شخصية من الأدب الياباني وتُعمّمها، ولم تكن لدى آداب أميركا اللاتينية مثل هذه المسائل، ولا تَخرج الرواية العربية، وهي الرواية الأكثر شباباً من بين الروايات في العالَم، عن القاعدة، فكلُّ أدب من هذه الآداب استطاع أن يُقدّم شخصيات أدبية يمكن أن تُمثّل أنماطاً عالمية في الفكر والوجدان، دون أن تتمكّن من تعميم النماذج، أو إدخالها في سياق الشخصيات الخالدة.

مَن المسؤول عن هذا؟

أمامنا جوابان: الأوّل هو أنّ الثقافة السائدة، وهي هنا والآن، الثقافة الغربية، تُرغم الثقافة العالمية، بسبب هيمنتها، استناداً إلى إرث استعماري وتقدُّم تكنولوجي وقوّة عسكرية كبيرة، على قبول نموذجها عن البطل والشخصية الروائية والنموذج، وغير ذلك، كما تمنع دخول شخصيات أدبية متفرّدة في آداب العالَم، من تحدّي "نماذجها" بقدر ما تستطيع.

والثاني هو أنّ الأمم أو الشعوب لا تتمكّن من تقديم رواية عظيمة بسهولة، ولا خَلْق شخصية خالدة، بقرار من أحد، حتى لو كان عدد السكّان يتجاوز ثلاثمئة مليون نسمة، وهو أمرٌ يجب ألّا يُقلق أحداً، ذلك لأنّه قابل للتعميم، ولا يخصّ أدباً أو شعباً أو أمّة دون أُخرى، لأنّه ناجم عن طبيعة الإبداع ذاته الذي يتّسم معظمه في كلّ الآداب عامّة بالمستوى الجيّد، لا العظمة.


* روائي من سورية

موقف
التحديثات الحية
المساهمون