"تاريخ القرآن".. انتقائية وتخمينات استشراقية

25 ابريل 2023
من الاحتفالات الفلسطينية بذكرى الإسراء والمعراج في القدس المحتلة (2008/ Getty)
+ الخط -

لا تزال الدراسات المتعلّقة بتشكُّل النصّ القرآني وتدوينه ونشأته تتكاثر، في الفضاء الفرنسي. فقد صدر مؤخّراً كتاب "تاريخ القرآن" ("منشورات سارف"، باريس)، وهو عملٌ جماعيّ بإشراف محمد علي أمير- مُعزّي، الباحث الفرنسي من أصل إيرانيّ، وغيوم دي، أستاذ الإسلاميّات في "الجامعة الحرّة" ببروكسل. هذا الإصدار، في حقيقته، استعادة للمقدّمة المطوّلة لكتاب "قرآن المؤرّخين"، الذي ظهر سنة 2019 في ثلاثة أجزاء، إلّا أنّه يتضمّن مقاليْن جَديديْن لم يُطبعا من قبل، وهو ما يسوّغ قانونًا إعادة إصداره بشكل مستقلٍّ. فهل من جديد في هذا الكتاب يبرّر هذه الاستعادة، أم أنّها أنجزت فقط لدواعٍ تجاريّة في جوهرها؟   

يحتوي هذا "التاريخ" على اثنين وعشرين فصلاً رُتّبت حسب ثلاثة أبواب كبرى: ففي الباب الأول الموسوم: "القرآن وبدايات الإسلام، السّياق التاريخي والجغرافيّ"، يركّز الباحثون على وصف أجواء الجزيرة العربية إبّان ظهور الإسلام، وعلى علاقات هذه المنطقة بالفُرس، الذين تحرص الباحثة سمرا أذرنوش على تسميتهم بالإيرانيّين، كما تستعيد أطرافاً من السّيرة النبويّة بطريقة تُبرز المؤثّرات التي يُمكن أن تكون قد أدّت دوراً في تشكّل النصّ القرآني. ويتطرّق الباب الثاني وعنوانه: "القرآن في مُفترق السُّنَن الدينيّة خلال المرحلة القديمة المتأخّرة"، إلى علاقات القرآن بسائر الجماعات الدينيّة الأُخرى، كاليهود والنصارى والمانويّة والمزدكية وغيرها من المِلل التي كانت تتعايش في منطقة الشرق الأوسط. 

وخُصّص الباب الأخير "المُدوّنة القرآنية"، لدراسة الحوامل والمستندات التي سُطِرت عليها الآيات والسّور، مثل المخطوطات البدائيّة والأحجار والجلود وأوراق البَردي، والبحث في تواريخ تدوينها والتغيّرات التي قد تكون طرأت عليها، إلى جانب فصلٍ جديد حول "أسلوب القرآن" وعلاقته بالفُصحى، كَتبه الألسنيّ المستعرب بيار لارشي.

نظرية ترمي إلى نزع أصالة القرآن والقول إنه مقتبس

وهكذا، يرمي هذا العمل إلى وضع النصّ القرآني ضمن سياقه التاريخيّ الشامل، ثمّ قراءته عبر المصادر الخارجيّة التي تحمل نظراتٍ مباينة، وأحياناً معادية، لما تقوله المصادر الإسلاميّة عن "الكِتاب"، مما يُتيح تفسيراً أوسعَ لمعاني آياته ومبادئه، ولا سيما تلك التي تحمل بصمات الثقافات الأجنبيّة، والتي لم يكن متاحاً لعُلماء الإسلام القدامى الاطّلاع عليها، لجهلهم باللغات التي صيغت فيها. 

تتوخّى هذه الأبحاث منهجاً تُسمّيه "الحسّ النقديّ"، الذي يرفض الرواية التقليديّة الإسلاميّة ويضعها موضعَ الشكّ، ويعتبرها إمّا متعاليةً على التاريخ لاستنادها إلى مفاهيم "المعجزة" و"الوحي"، أيْ التدخّل الإلهي في الزمن البشريّ - الأرضي، وإما متّسمة بطابع تمجيديّ، يغضّ الطّرفَ عن التناقضات ويُسوّغها. 

ولذلك، تستكنه هذه المقالات التأثيرات الخارجيّة في صياغة عددٍ من مبادئ القرآن، حيث كان السّياق العامّ، المتألّف من مجموع عوامل غير عربيّة، هو الذي أفضى إلى تشكيل ما صار يُعدّ البناء النظريّ (العقدي، والفقهي، والرّوحي) لدين الإسلام. ولا يخفى ما في هذه المقاربة من اعتسافٍ وإسقاط، فليس كلّ تَشابه، حتى وإن ثَبَتَ، هو نتيجة اقتباس القرآن له، أيْ اصطرفه نبيّ الإسلام من الثقافات الأُخرى، عقب لقاءاته النّادرة بأهل الكِتاب في الجزيرة، وذلك في مسعًى لنزع كلّ أصالةٍ عن القرآن، واعتباره مجرد "تدوين" لمَجموع المعارف والأفكار التي كانت سائدة في تلك العصور والتي انبعثت من الحضارات القديمة.   

غلاف

ومن بين الأمثلة على التأثير القانونيّ المزعوم لهذه الحضارات في مبادئ الفقه الإسلامي، برهن الباحث دافيد بوارس على تأثير القواعد البيزنطيّة واليهوديّة في أحكام تقسيم الميراث. ويلزم الكثير من التكلّف لإثبات ذلك التأثير. نفس الملاحظة تنطبق على الاقتراض المعجميّ وتحوير عقائد الآخرين وتصوّراتهم عن المعاش والمعاد، كأنَّ العرب عُقْم، ليس لهم إلّا ما نَقلوه من الأمم المصاقبة. 

وهكذا، فالمَسكوت عنه في هذا العمل نزع القداسة والأسطرة (Démythification) عن القرآن، وإرجاعه إلى وطأة السياق الزمنيّ بوصفه جواباً تاريخياً عن احتياجات عَرضت للنّبي محمد فصاغ تلك الملفوظات، أو هي نُسبت إليه في فترة لاحقة، من أجل خلق أسطورة تتكئ عليها الدولة الأمويّة الناشئة، واعتمادها مرجعاً رمزيّاً، يبرّر لمنظومتها السلطويّة ويجعل من دينها مثلاً أعلى يُساعد في إخضاع الرّعية. 

ولا نكاد نفهم الحاجة إلى كلّ هذا التعسّف في قراءة موارد التاريخ الإسلامي، ولا إلى هذا الإبعاد والتكلّف في التأويل السياسي السّطحيّ لأحداثٍ تمتلك قدراً معقولاً من التماسُك في الرواية الإسلامية التقليدية عن القرآن، ذلك أنّ هذه الأخيرة، وبالرغم مما يشوبها من ثغرات وحتّى تناقضاتٍ، تظلّ مقنعةً بشكل كبير. ولا نرى دوافع عِلميّة تدعو إلى وضعها موضع الشكّ عبر فرضيّات تضمّنتها نتائج هذا التاريخ وموجزها أنّ القرآنَ نصٌّ "حُرّر" بعد عقود من وفاة الرسول على يد رجالٍ يدينون بديانات أُخرى، ويتكلّمون لغاتٍ مغايرة، كالعبريّة والسّريانيّة. 

معرفة تخمينية تغيب عنها الشواهد والأدلّة الملموسة

هذا، ويزخر الكتاب بمعلومات ضافيَة عن الدول والثقافات المعاصرة لظهور القرآن، وكذلك عن الجماعات الدينية التي عاصرته، ولا سيما اليهود والمسيحيين والصابئة، فحاول الباحثون إثبات صلاتٍ بينها وبين ما ورد في القرآن عبر انتقائيّة لافتة، وإلا كيف نفهم، مثلاً، الآيات التي تضرب في الصميم عقائدَ "التثليث" و"صلب" السيد المسيح، و"تأليهِهِ وأمِّه مريم"، إذا كان القرآن وليد تأثير النّصوص المسيحيّة المتداولة آنذاك. وأما كون القرآن يتضمّن نفس قصص الأنبياء والحكماء الواردة في التوراة والإنجيل، فذلك تحصيل حاصلٍ، ولا يعدّ إيراده "كشفاً" يغيّر تاريخية النص القرآنيّ، لأنّ هذا الأخير هو نفسُه الذي أثْبتها وأعلنها.

وقد يفضي الانشغال الزائد بالسياق التاريخيّ إلى إهمال مدوّنة القرآن نفسها، فتصير المباحثُ غير ذات موضوع، منصبّةً على "معارفَ" أغلبها تَخمينيّ لغياب الشواهد القاطعة والأدلة الملموسة، أو إيراد سليم ولكن لا صلة له بالقرآن. وربما كان هذا الانزياح في تحديد الموضوع بديلاً عن وعورة التصدّي للنصّ ذاته والتضلّع من أساليبه وشفراته.

تصوّر هذه المباحث ما نعرفه بعدُ عن القرآن، وهي تعرض إلى أشتات معلوماتٍ ما فتئ المستشرقون يكرّرونها منذ أكثر من قرنَيْن، ثم يعودون فيُلبِسونها حُلّة جديدة، وجلّها لا يخرج عن كونه "فرضيّات" سبق وأن جالت فيها عقول علماء الإسلام، القدماء منهم والمحدثون، فأشبعوها نقاشاً، أو هي معلوماتٌ ثابتة حول مناطق وثقافات أُخرى، يتكلّفون إثبات تأثيرها قسراً في النص القرآني، ولا حاجة تدعو لذلك. ومع ذلك، يظلّ من الضروريّ الاطّلاع على ما وَرد في هذا السِّفْر حتى يتابع القارئ العربيّ أهمّ الأطروحات السائدة، ضمن متغيّرات تاريخ الأفكار في الفضاء المعرفي الغربيّ، وخصوصاً لدى المستعربين، مما ييسّر الردّ عليها بعد تحليل المصادرات الضمنيّة التي توجّهها. ولا عجب أن يبقى تاريخ القرآن يتلفّع بأسراره ومفارقاته، ولعل ذلك جزءٌ من هذه الجاذبيّة التي ظلّ ولا يزال يمارسها على أجيال القارئين من كل عصر وثقافة. وقد يحجب الانهمام بالتاريخ الطبيعةَ الحقّة لهذا الكلام المتعالي.


* كاتب وأكاديمي تونسي مقيم في باريس

المساهمون