يكفي أن تتجذّر وتتأصّل داخل كيانك المحلّي، حتّى يكون إبداعك عالميّاً. هكذا كنّا نكتب ونقول منذ عقود بنفَس وجودي فيّاض وهاجس من حماسة الهويّة، وما نزال. وقد غاب عنّا التمييز بين التجذّر والانكماش فلم نكترث بمخاطر التقوقع والتشرنق... كما غاب عنّا أنّ هذه القيمة العالميّة التي نقصد هي نتاج تراكمات لم نسهم في صنعها وتهيئتها وهي بالأحرى عالميّة الآخر، رَتّبَ براديغماتها على حسابه الخاص، من منظوره الخاص، وأنّ الولوج إليها ارتماءٌ أعمى بين أحضانه ومن العبث أن نتصوّر العالمية تنتظرنا في الطريق بمجرّد أن نكتفي بأن نكون ذواتنا.
بل لم نكن نكترث بمغبّة أنّ تكون هذه العالمية، الموهومة والمخصّصة لنا، سجناً هيّأه لنا الآخر العالمي لنكتفي بالعيش فيه ونلتزم بمكاسبه، حيث نكيّف ما نملك من خصوصيّات محلّية بحسب ما رسمته لنا هذه العالمية. فبأيّ معنى يمكن أن نكون عالميّين دون أن يكون لنا موطئ قدم ملائم في سوق الفنّ العالمية؟ بأيّ معنى يمكن أن نكون عالميّين ولكن من خارج خطابات تاريخ الفنّ العالمي، الحديث والمعاصر!
نطرح هذا الإشكال وما زال بعض الفنّانين يرسمون لوحاتهم في أغراض استغرابيّة (exotisme)، من قبيل "الفروسية" و"المدينة العربية" و"الخطّ العربي"، بحسب ما يروق للسائح الأجنبي أن يراه، لهفةً وراء لوحات ومنحوتات ينجزونها ويعرضونها بعيون الآخر وليس بأعينهم (وبعدُ، لم أتحدّث عن الصّيغ الفجّة التي يوظّفون فيها الفولكلور، في السينما، كما في الفنون التشكيلية).
ألم يتأكّد لنا بعد، مع إدوارد سعيد في كتابه ("الاستشراق: الشرق بوصفه ابتكاراً غربيّاً"، 1978)، بل ومع كلود ليفي ستروس في كتابه "مدارات حزينة" (1955)، أنّ "التصنيفات" الثقافية والمتحفية لفنون الشعوب وما يُعرف بالفنّ البدائي هي في الواقع ابتكارات غربيّة، أي أنّها تصنيفات وفق تصوّر جيو-استراتيجي يحكم طريقة كتابة تاريخ الفنّ ويميّز بين شمال وجنوب؟ وأنّ عصر العولمة نفسه يقتضي أن يقع تطوير النظر إلى هذه الفنون غير الغربية من خارج الإطار الأسطوري والاستغرابي والاستشراقي الملتبس الذي وضعت فيه؟
هل علينا أن نكيّف خصوصيّاتنا بحسب متطلّبات السوق؟
أجل، لقد سبق أن تدبّرنا - في الثقافة العربية - هذه المسألة سنوات التسعينيات بالتأكيد على أنّ انفتاح الفنّان العربي على التقنيات المختلفة للتعبير التشكيلي المعاصر، قد أدّى إلى وضع سمة "المحلّية" موضع استفهام. وبغضّ النظر عن الانتشار السريع لثقافة العولمة، يُطرح السؤال من جديد ولكن في إطار جمالي بحت، لمعرفة مدى مشروعية القول في أعراف الفنّ المعاصر بوجود فنّ تونسي وفنّ ليبي وفنّ مصري وفنّ سعودي وفنّ جزائري وفنّ عماني وآخر بلجيكي أو نرويجي أو إندونيسي...
والحقيقة أنّ القول بهذه المحلّيات كان مؤكّداً في حديثنا عن الثقافات والفنون القديمة، فعندما نتحدّث عن "الفنّ المصري" فإنّنا نقصد الفنّ الفرعوني، وعندما نتحدّث عن "الفنّ المكسيكي" فإنّنا نقصد حتماً ما أنتجته قبائل المايا والأزتِك... أمّا في الثقافة المعاصرة، فكأنّنا، أقول كأنّنا، بالسياق الزمني للفظة "معاصَرة" يحجب النظر عن السياق المكاني والجغرافي والمحلّي. إذ الفنّ المعاصر يدّعي الكونية. ومثل هذا الإشكال كان يستدعي فسح المجال لإنشاء تعاوُن متبادل وتضافُر خصب بين اختصاصين على الأقل من فروع العلوم الإنسانيّة، وهما علم الجماليّات، من جهة، والأنثروبولوجيا الثقافية، من جهة أُخرى.
فهل تتحدّد فعلاً عالميّة الأثر الفنّي ومحلّيته من خلال طبيعة المواد والتقنيات المستعملة؟ ومن ثمَّ، هل يكفي للمهندس المعماري المصري حسن فتحي أن يستعمل التراب والطين والطوب وجذوع النخيل وغير ذلك من المواد المستمدّة من جهة الصعيد المصري حتّى ينتج عمارة مصرية و"محلّية"؟ وهل يكفي للرسّام المغربي فريد بلكاهية أن يستعمل أصباغ الحنّاء والوشم البربري والرقوق أو الجلود المدبوغة بمرّاكش، حتّى ينتج فنّاً مغربياً "محلّياً"؟ ثمّ بالمقابل، هل يكفي للنحّات التونسي الهادي السلمي أو الكويتي سامي محمّد أن يستعمل مادّة البرونز التي طبعت النحت الحديث والمعاصر، حتى ينتج كلّ منهما أعمالاً نحتية "عالميّة"؟ وبعدُ، فالاعتراف بقيمة العالمية بقي مرتهناً بالمشروع الجيوسياسي الذي يحدّده الفاعلون في سوق الفنّ العالمية، من مؤسّسات ومروّجين ومستشهرين...
لا يمكن أن نكون عالميّين في غياب بيئة ثقافيّة ديناميّة
ومن جهة أخرى، هل ستنقلب المفاهيم فيصبح الأسلوب الفنّي نتاج التقنيات المعتمدة وطريقة تناول الفنّان للمادّة أو الخامة التي بين يديه؟ هل بالرجوع إلى مرجعيّة الخامة وطبيعتها، محلّية كانت أو وافدة، يمكن التمييز بين عالمي ومحلّي؟ وفي سؤال عكسي، هل لي أن أتخلّى عن الألوان الزيتيّة المستوردة من إيطاليا أو إسبانيا وقماشة الكتّان المستوردة من بلجيكا، فأعتمد على أصباغ طبيعية "أصيلة" من بيئتي المحلّية، حتّى أكون عالميّاً؟ ما الذي يضمن اليوم، صحّة مقولة أنّ المحلّية هي الطريق إلى العالمية، مثلما كنّا نقول قبل عقود من الزّمن؟ ما مدى وجاهة ما كنّا نقول بأنّ الطريق إلى العالمية هو فقط أن نكون نحن، كما نحن، وأن نكون ذواتنا؟ وهل يتسنّى لي أن أكون "عالميّاً" بينما أعيش وأتنفّس داخل أسوار مدينتي العربية أو الأفريقية، منعزلاً فيها، ملتزماً بها، وفياً لهوائها، هوائها الذي أصبح مخترَقاً؟ ثمّ هل بنقلة إقامتي إلى روما أو إلى نيويورك يمكن أن أكون عالميّاً، وفي الوقت نفسه مغرقاً في محلّيتي عبر إحالات الذّاكرة؟ هل المحلّية مجرّد ذاكرة؟ هل العالميّة مجرّد نقلة في المكان؟ متى يمكن للعالميّة أن تكون سَكناً في العالم habiter، (إذا ما استحضرنا هايدغر) بدلاً من أن تكون مجرّد لجوء أو إقامة se loger؟
نعم لدينا فنّانون ومعلّمون جديرون بأن نعتبرهم "عالميّين"، أو هكذا يُفترض، على سبيل الذكر لا الحصر: حاتم المكّي، محمّد خدّة، وجيه نحلة، نجيب بلخوجة، كمال بُلّاطه، محمّد المليحي، مديحة عمر، نذير نبعة، شاكر حسن آل سعيد، ضياء العزاوي، إبراهيم الصّلح، مصطفى الحلّاج... ولكنّ هذا النعت - عالمي - في حدّ ذاته يمكن بالأحرى أن يرتقي إلى مصطلح يُطلَقُ على الفنّانين الذين يحتلّون موقعاً في "تاريخ الفن" الحديث والمعاصر. هذا التاريخ لم يكتبه العرب بل هو نتاج آلة مؤسّساتيّة وإعلامية تابعة لما يسمّى "عالم الفن"، وهو صنيعة غربيّة ويخضع إلى خريطة للقوى الجيوسياسيّة ليس للعرب فيها نصيب يُذكر.
ولا ريب، على العرب اليوم أن يكتبوا تاريخ فنّهم بأنفسهم ولا يعوّلوا أساساً على المجتمعات الأخرى حتّى تعترف بفنّانيهم. فالحضارة الإنسانيّة إسهام مستمر ومتبادل من أجل نحت صورة أكثر ملاءمة للإنسان المبدع والعامل والمجدّد ولا تُبنى بالتواكل والوكالة. من لا يعمل ولا ينتج يندثر حتماً، يموت في عالم متحرّك. من لا يكتب تاريخه الخاص بيَديه سيطويه النسيان، لا محالة، طال الوقت أم قصر. ولا سبيل أمام الشعوب لإثبات ذواتها الحضاريّة إلّا بالعمل والإبداع واستئناف كتابة الذات مع كلّ لحظة قراءة متبصّرة واستعادة نقديّة. وليس العمل حكراً على المبدعين، بل هو ثقافة علائقيّة ومَأسَسِيّة تفترض وجود مؤسّسات خادمة للإبداع وضامنة لترويجه وأجهزة سياسيّة وديبلوماسيّة فعّالة، لا تكتفي بالفرجة والانبهار والتساوق مع التيار، بل تبادر بالعمل والاقتراح وصناعة البرامج وتواكب التطوّرات الحاصلة وتسهم فيها.
الفنّان العالمي هو الذي يحظى بموقع ملائم في منظومة "عالم الفنّ" العالميّة، تلك التي تشتغل وفق حسابات استراتيجيّة ترجع إلى موازين القوى وحضور مفاهيم السّيادة الكونية والسلطة والديناميّات الثقافيّة التي تستحثّها داخل بيئة اجتماعيّة وسياسيّة بعينها وأعماله موضوع مبادلات في أسواق الفنّ والتّرويج، نُشرت حول أعماله نصوص بلغات نافذة وهو اسم شغّال في نشاط الماكينة الإعلامية.
الفنّان غير العالمي ليس له شيء من ذلك، ولا يحظى بلقب "عالمي" مهما كانت عبقريّته ومهما اتّسع حلمه وعلا شأنه في تُربته التي ولد فيها. لنفترض أن عشرات الفنّانين من عيار بيكاسو أو بيتهوفن أو مارسيل دوشامب يولدون يوميّاً في قرى نائية وسط أفريقيا أو في شمالها... ولكنّهم لا يصبحون عالميّين إن لم تشملهم العوامل التي ذكرنا.
لسنا عالميّين، تحديداً، في غياب بيئة ثقافيّة ديناميّة نافذة تنشط داخل لعبة المبادلات العالميّة التي تتطلّب تموقعاً في خريطة القوى يعمل على تشبيك الأدوار سياسيّاً واقتصاديّاً... نحن بالأحرى في منزلة شقيّة بين المنزلتين، منزلة إشكاليّة مرتهنة بحتميّة التّاريخ وضرورة الجغرافيا.
* باحث وتشكيلي من تونس