"بُنوّة" لليلى جريديني.. خيوطٌ مشدودة إلى ذاكرة وعائلة

20 مارس 2023
(من المعرض)
+ الخط -

لم تكن الخيوط يوماً لتُقرَأ في إطارٍ وظيفي فحسب، يشتغل فيها النسّاجون والخياطون وينتفع بها الناس؛ وعلى أهمية هذا الدور، إلا أنها وجدت مداها الأوسع في عالم الاستعارات، حيثُ أصبح الحديث عن الخيوط بالمعنى الأثيري غير المباشر؛ هناك حيثُ تتجذّر الذاكرة وتُحكَى المرويات، ولا يبقى أمام النظر سوى التأمّل. بل إن أفعالاً مثل "نسج" و"حاك" و"حبك"... إلخ، ارتصفت في الوعي الإنساني ومخيّلته التجريدية، لتكوّن موازيات يستعين بها الإنسان في توصيف حالته الشعورية ومواقفه الاجتماعية.

"بنوّة: الإرث المُستعاد" عنوان المعرض الذي يتواصل حتى الخامس من نيسان/ أبريل المُقبل، للتشكيلية اللبنانية ليلى جريديني (1963)، في "غاليري جانين ربيز" ببيروت. وفيه تشتغل الفنانة على خاماتٍ قليلاً ما يُلتفت إليها في ساحة التشكيل اللبنانية؛ قوامها الخيوط والنُّسُج. ولكنْ إذا كانت الفوارق التقنية بين "شكّلَ" و"نسجَ" باديةً لعين المتلقي الذي لا يرى لوحات بالضرورة، فهل يمكنُ القول إنه يرى سجّادة؟ خاصة أن هذه الأخيرة تحظى بنوعٍ خاص من الاهتمام "الفني" حتى خارج الحقل التشكيلي، وربما يعود ذلك لدورها الوظيفي في يوميات الناس العادية. 

النَّسْجُ هو روح الأعمال وناظمها الأساسي مهما تجاورت الخامات

عند هذا الحدّ، هل ما تنسجُه يدا جريديني عودة إلى الوظيفي بوصفه جوهر العملية النَّسْجية؟ خاصة أنها تتحدّث في تقديمها للمعرض عن إرث عائلي، هو مصنع الغَزْل والنسيج الذي كانت تملكه عائلتها قبل أن يُغلَق؛ تكتب جريديني في تقديمها للمعرض "تخيّلت نفسي أسيرُ في طريق أجدادي، وأربط بين ماضيَّ ومستقبلي". بهذا تصبح العناوين عتباتٍ قريبة تحملُ المتلقّين بانجذابٍ سريع صوب فضاء الأعمال، وكما اعتمد الأجداد على الأنوال في خلق منتوجاتهم، ها هو الإرث يتواصل، وعادت الخيوط لتشغّل النَّوْل من جديد، وتعبِّئه بأشكال هندسية تُفصحُ عن "بنوّةٍ" ما زالت تنظرُ إلى نموذج أعلى وتتمثّل به.

من معرض بنوة - القسم الثقافي
(من المعرض)

إلى جانب ما سبق من خامات، تحضر في المعرض أيضاً تجهيزاتٌ من موادَّ طبيعية أُخرى كالرمل والأخشاب والأحجار، وهذه تحملُ إحالاتٍ إلى ذاكرة جَمعية للبشر عموماً، وأوسع من الذاكرة الخاصة بالفنانة، وإنْ كانت هذه الأخيرة هي الأرجح والأعمّ، وبالعودة إلى الخيوط فإنها تكشف عن متانةٍ ضامّة، تستطيع من خلالها أن تطوّع العناصر الأُخرى، وأن تقول كلمتها لتبقى هي الناظم الأساسي، حتى لو تجاور في العمل الواحد أكثر من خامة أو عنصر.

اللافت أن جريديني حرّرت أعمالها من أُطرها، إنها محضُ مُعلَّقاتٍ استحال فيها الخيط من أثرٍ مرئيٍّ إلى خريطة مفتوحة لا حدود لها. إنّه يتحرّك فقط دون أن يُرسِّم أو يبيّن غاية نهائية يمكنُ ان نتوقّع توقّفه عندها، فالتوقّع أمام هذه الاشتغالات التجريدية للا يفي بغرض القراءة، التوقّع أشبه ما يكون هنا بـ"نَكْثٍ" و"نَقْضٍ" بعد قوّة، وهذه خلاصةُ ما تودّ أن تقوله جريديني؛ أي أن تكون تلك البُنوَّة مشدودةً بقوّة إلى الذاكرة والعائلة دون أن ينقضها شيء. 

المساهمون