ما قالته صافيناز كاظم عن بهاء طاهر عقب رحيله استفزّ كثيرين، والأرجح أن هذه كانت غايته في الأصل، لذا كان تلاحُق الأجوبة عليه من أهدافه، بل هدفه الأوّل. لعلّ توقيت الكلام في جوّ يتكرّس في العادة للعزاء والتكريم، ويوصى فيه بأن تُذكر محاسن الموتى، ويُبتعَد عمّا ليس كذلك؛ لعلّ هذا التوقيت لم يكن لِيُلائم تقليداً بهذا الوزن.
يصحّ السؤال: لماذا انتظرت صافيناز كاظم هذه الساعة لتقول هذا الكلام؟ كان أصحّ أن تقوله والكاتب في الحياة، فالساعة ليست لأمر كهذا. قد يصحّ الرأي إذا تناول شخصاً عادياً لا يترك شيئاً لِما بعد حياته، أمّا الكاتب فليس كذلك، إذ يرحل هو وتبقى كتبه ومواقفه حاضرة. لا ينتهي الأمر بوفاته، ولا يكفي، في هذا السبيل، أن تُذكَر فقط محاسنه. من حظّ الكاتب، بل من مرجوّه، أن يبقى أدبه محلّ جدل وسجال، وأن تكون وفاته، ربما، مناسبة لتجديد الكلام فيه.
ليست المسألة، هكذا، مسألة لياقة وقواعد أدب وتهذيب. ليس الكاتب أي أحد، ليجوز طمره بمحاسن صحيحة أو مصطنعة. ليس أي أحد لينتهي الكلام فيه عند هذا الحد. تقول صافيناز كاظم عن بهاء طاهر إنه، في أفضل الأحوال، متوسّط الموهبة؛ هذا كلام يستحقّ جواباً آخر، إنه حكم وليس تشهيراً فحسب. على مَن يرى أن الرجل روائي من الصفّ الأول أن يدافع عن رأيه. هذا ما يُدخلنا في النقد الأدبي، وبهاء طاهر، شأنه شأن أي كاتب مقروء، يستحقّ هذه المراجعة. وفاته، بالتأكيد، تجعله في البرزخ، وتحيل أدبه إلى المراجعة والقراءة الثانية.
لم تحاكم صافيناز أدب بهاء طاهر بل رمته بانتقاص سريع
استعجلت صافيناز الحكم على أدب بهاء، بل هي لم تحاكم هذا الأدب، واختارت، بدلاً من ذلك، أن ترميه بانتقاص سريع، وأن ترجمه بما يشبه الطرد، ولا أعرف إذا كانت قادرة على الاحتجاج لرأيها، وإذا كان هذا الرأي ليس جزافاً. لكنّي حين أقرأها تنعى على الرجل جوائزه، وترى أنه "استحلّ لنفسه جوائز كثيرة مغتصبة ممّن كانوا أحق"، حين أقرأ ذلك، أنا البعيد عن مصر، لا أفهم كيف يستحلّ شخصٌ لنفسه جائزة، وكيف يغتصبها ممّن هم أحق بها. لا أفهم كيف يكون جُرم بهاء أنه حاز جوائزَ بهذا القدر. أمّا أن غيره لم يفز بها، فهذا بالطبع ليس مسؤوليته ولا يُحاسب عليه. لا يُسأل بهاء طاهر عن ذلك، فهذه مسألة أخرى لا دخل له بها. مسألة أخرى بحقّ، لكنها تبقى مع ذلك مسألة قائمة.
يحق لنا، بدون أن نلقي اللائمة على بهاء أو سواه ممّن فازوا، يحقّ لنا أن نسأل فيمَ لَمْ ينل فتحي غانم، أو عبد الحكيم قاسم، أو إبراهيم أصلان، أو محمد البساطي، أو خيري شلبي، أو إبراهيم عبد المجيد، "جائزة كتارا للرواية العربية"، أو "جائزة بوكر". لقد نالهما بهاء طاهر، الذي لم يبتعث نيله لهما، فيما أعلم، أي احتجاج. استحقاقه لهما أو عدمه، يبقى بالتأكيد أمراً جدلياً، لا يُحسم بجملة قبول أو استنكار. يمكن القول إن الأسماء التي أوردتُها ممّن لم يفوزوا، يستحقّون الجائزتين قدر استحقاق بهاء. إنهم قامات تُوازي بهاء، وقد نجد من يؤثرهم على بهاء.
نحن هنا أمام قامات روائية تكاد تملأ جيلاً روائياً، وتكاد تكون المؤسِّسة لرواية ما بعد محفوظ، رواية تستحقّ وقفة نقدية إزاءها، تحدّد ملامحها وتتناول أهم روّادها. ليس صدفة أن يكون كل هؤلاء في عدادها. إنهم، في مجموعهم، يشكّلون علامات فارقة في جيلٍ روائيّ، بل يشكلون أدباً كاملاً. هؤلاء لم يفوزوا، ولا ينقص من بهاء القول إنه يقف في موازاتهم، وإن إغفالهم، في ما يخصّ الجوائز، يبقى سؤالاً مشروعاً. بل يصحّ أن يكون من مسائل النقد، ومن موضوعاته. لم يغتصب بهاء حقوق هؤلاء بالتأكيد، ولم يكن هذا في مقدوره، أو من شأنه، لكنّ أمراً كإغفالهم يستحقّ المراجعة.
بهاء هو الآن علمٌ على الرواية المصرية، بذلك تستحقّ رواياته قراءات أخرى. لا أعلم لماذا تُنحّى أعماله الأولى، وكأنها لم تكن. يتكلّمون عن روايات تالية، لا نَغفل عن نزوعها السياسي، ونُغفل أعماله الأولى ذات المنزع الوجودي، والتي تستهوي قراء آخرين، بسوداويتها وقلقها الوجوديين.
ثمّة لدى كثيرين تقديرٌ كبير لهذه المرحلة من عمل بهاء الروائي. بل هناك مَن يؤْثرها ويفضّلها. هل كان للنزوع السياسي دخلٌ في رواج الروايات اللاحقة، وهل هناك مَن يؤْثرها لذلك ويفضّلها؟ هل كان للنزوع السياسي دخلٌ في رواج تلك الروايات، وهل يبقى الأمر كذلك في قراءات ثانية؟ أسئلة مطروحة على النقد، وعليه أن يباشر قراءات ثانية لبهاء.
* شاعر وروائي من لبنان