بحثاً عن لوح شوكولاتة في غزّة أثناء الحرب!

25 نوفمبر 2023
طفلان فلسطينيّان يسيران وسط الدمار في خانيونس بغزّة، 24 تشرين الثاني/ نوفمبر 2023 (Getty)
+ الخط -

تحتفظ أُمّي بعلبة شوكولاتة قديمة فارغة في غرفتها لأنّ شكلها يُعجبها. تُنظّفها كلّ مرّة لأنها تفتح لها مجلّداً من ذكريات وصور. جزء كبير من ذاكرة المرأة الفلسطينية هو نوستالجيا، يتضمّن هذا بيتها القديم قبل التهجير، وطبخات جدّاتها، وشجرتها الأُولى في المدرسة، وبالتأكيد أوّل مرّة تذوّقَت فيها طعم الشوكولاتة، وهي شيء يصبح في الأحاديث اليومية، مثل دعاوي الهدنة. دعني أخبرك.

تنقلّتُ لأسبوعين في مغامرة للبحث عن لوح شوكولاتة مفقود، الأوصاف بسيطة، درجة المرارة 60% فما فوق، وضرورة ألّا ينعكس على طعم الحياة في غزّة أثناء الحرب، شيءٌ أقلّ. ومن المستحسن أن يكون الشكل العام لائقاً لضيوف غرباء. وبس. شو بدنا نقدّملهم يعني؟ بسكوت وشاي؟ ما بيزبطش يا ماما.

عند البائع س، وكان رجلاً بشوشاً، فتحتُ باب دكّانه معه: يا صبّاح يا فتّاح، إجوا العاطلين وراحوا المناح. فركنا عيوننا معاً وأخذنا نبحث عن اللوح المفقود في كوم البضاعة التي تجمّعت معاً بفعل القصف القريب. لم يكن الأمر غريباً في الأيام الأُولى، إذ كان متوفّراً السؤال والألواح معظمها، ما عدا لوح أمّي أبو 60% فما فوق. كان الرجل بشوشاً كما قلت، وكان يقدّم عروضاً مختلفة، وهي مقنِعة إلى حدّ بعيد، وكان يمازحني: تاخذلك اثنين 30/ 30؟ مُضحك لكن محرج؛ أضحك معه. يفتح الرجل لوح شوكولاتة: تفضّل ذوق.

أعطيتُ اللوح لأمّي ولم أُخبرها بالقصّة، ولم تفتحه بعد

لم نجد طلبنا عند الرجل ولم تنفع كلُّ محاولاته. لكنّنا دفعنا بالطبع ثمن ما تذوّقناه؛ كما يقول: عصفور بالإيد والعشرة طاروا.

كثير ظريف!

لا راحة في الحرب، يحتاج تأمين أيّ احتياج إلى أيام. لقد استيقظنا جميعنا متأخّرين على: لا يوجد شيء. بعد أيام زارنا ضيوف، لم نقدّم لهم شوكولاتة أمّي. أخبَرونا أنهم لا يشربون الشاي. اقتصر الحديث عن: الله بعوّض، وعلواه نرجع. وذهبوا. أخذت دوراً عند بائع القهوة، هناك لمحتُ أحدهم ومعه لوح الشوكولاتة. كان إلى جانبي. لكنّه مضى مسرعاً مثل من يُخفي كنزاً، هل ألحق به؟ ناديت عليه. دوري على القهوة من وين ألاقيه! ما سمعني بكلّ الأحوال. منيح كثير.

عند البائع رافع حاجبيه، مش استنكار لا سمح الله؛ بس خلقة الله.

الناس بتموت وإنت جاي تدوّر على شوكلاتة. غريب إنت.

لا. إنت مش فاهم أستاذ، خلّيني أشرحلك، قرِّب أذنك، بدّي ياها لإمّي، وبدّي ياها مُرّة كمان.

في الحرب عندما تطلب شوكولاتة، لا تطلب لك. اطلبها لأمّك. في الحرب عندما تطلب شوكولاتة قُل شوكلاتة مُرّة. هذه دروس مستفادة على الأقلّ تُخفّف من وطأة: بحّ يعني خلّص. آخر لوح جرى بيعه من شويّ.

عند البائع: لا أفهم طلبك!

نجوتُ من موّال: غاب السبع غاب. واستقبلوني بأغنية: شوفوا شو جاب. القهوة كنز هنا أيضاً. كنز ثمين لا يضاهيه بالنسبة إلى كثيرين شيءٌ في الوجود. والقهوة تحتاج إلى شريك معها عند الذين لا يجيدون التدخين. أنت تحزر معي؛ لوح شوكولاتة درجة المرارة 60% فما فوق، وضرورة ألّا ينعكس على طعم الحياة في غزّة أثناء الحرب، شيءٌ أقلّ. ومن المستحسن أن يكون الشكل العام لائقاً لضيوف غرباء.

ذهبتُ إلى السوق في مدينة ثانية بناءً على توصيات، هناك توجد مقاه مفتوحة وتوجد محلّات تبيع وتشتري الذهب ومحلّات آيس كريم، شيء عجيب، شيء مبهج، إذاً هناك يوجد بالتأكيد طلبنا السحري. السوبرماركت الأوّل فارغ، الثاني مغلَق، العاشر أيضاً... تعبت. عند البائع ص: رجل طويل مثل صاحب الظلّ وبشارب تقف عليه طائرة، تمشيّت في محلّه الصغير، اشتريت بعض الحاجيات، لم تكن تلزم بكلّ تأكيد. سألته على استحياء. نظر إليّ من تحت شاربه، وقال كلمات. لم أفهم الكلمات. روح عميّ، مش فاهم طلبك، أقلّك: ما عنديش طلبك. أخذت أشياء غير لازمة إضافية، حاسبت وانسحبت.

ليست أياماً صعبة فحسب، هي أيام مستحيلة. لكنّها ليست أياماً لليأس، هي أيام للأمل. نسأل، نبتهل، نصلّي، نتلو، نرتل، نقاوم، نناطح، نجاري.. المهمّ أنّنا نفعل.

بجانب بيتنا المستأجر، بيت النزوح الصغير، دكّان مفتوحة للمرّة الأُولى، عند عودتي قرّرت أن أسأل.

عند البائع: ابني استشهد.

وجدتُ لوح الشوكولاتة في الوجه. يقف باستحياء أيضاً. كان 60% بالضبط. لم يكن لديَّ الكثير لأقوله، تركتُ على الطاولة ثمنه. أعطيُته لأمّي. لم أسرد لها القصّة بعد، لكنّها لم تفتحه حتى الآن.


* شاعرٌ فلسطيني من غزّة

نصوص
التحديثات الحية
المساهمون