في كتابه "النقد الذاتي بعد الهزيمة"، يقول المفكّر السوري صادق جلال العظم: "أرجو أن يكون التفكير العربي الواعي قد وصل إلى مرحلة تجاوز فيها اعتبار النقد مجرّد تجريح". ثم يشرح ذلك بعد بضعة أسطر قائلاً: "حيث كان النقد متّهَماً دوماً، وبصورة مسبقة، بأنه تشويش على الاتّجاه الثوري التحرّري".
من الواضح هنا في كلام صادق جلال العظم أن الفكر العربي نفسه كان من الأطراف التي تتولّى كبح النقد، أو مصادرته، أو توجيه الاتّهامات لأصحاب الأقلام الحرّة. أي أنه كان يخشى منذ البداية أن يكون الفكر نفسه عائقاً في طريق النقد. والثابت أن عدداً كبيراً من المثقّفين العرب كانوا يصدّقون الشعارات التي تُطلقها الأنظمة العربية. لقد صدّقوا أنها بصدَد بناء الاشتراكية، وصدّقوا أن بوسع الجيوش العربية هزيمة إسرائيل في عام 1967، وكتبوا ما يُثبت تلك المزاعم، وهم الذين يناقش العظم أفكارَهم في كتابه.
وهي أفكار تتحرّك تحت مظلّات من الشعارات التي تمنع النقد بذرائع مختلفة: الشعار الفاسد الذي يفرّق بين ما يسمّونه النقد البنّاء، والنقد الهدّام؛ أو الشعار اللئيم الذي يجعل من نقد الغرب ــ الغرب نفسه، في أغلب الأحيان، لا الرأسمالية ولا الاستعمار ولا الإمبريالية ــ أولويةً يجب أن تكون معياراً للوطنية. إذ إن العداء للغرب يبدو مَخرجاً طيّباً للمثقّف "الوطني" الموالي للأنظمة.
العداء للغرب مَخرج طيّب للمثقف "الوطني" الموالي للأنظمة العربية
ففي تلك المفردة الغامضة (التي أطلق عليها جورج طرابيشي اسم "المرض بالغرب") يمكن لهذا المثقّف أن يحشو ما يشاء من أفكار دون أن يهتزّ ضميره. ولهذا، فإن النقد الداخلي يُعتبر، في هذه الحالة، تخريباً، أو تشويشاً على الاتجاه الثوري، كما قال العظم.
واللافت أنّنا نشهد اليوم، بعد نقد العظم بأكثر من خمسين سنة، أن أجنحة كثيرة من اليسار العربي لا تزال لديها جملة أثيرة تتحدّث عن أولوية التناقض الرئيسي (الصراع مع الإمبريالية) على التناقض الثانوي (الخلافات "البسيطة" مع الأنظمة الحاكمة).
صدرت الطبعة الأولى من كتاب العظم عام 1969 (دار الطليعة، بيروت)، أي بعد عامين من الهزيمة، وقد أعقب صدوره ــ كما أذكر ــ ضجّة إعلامية كبيرة في عالم العرب، إذ إنه كان يمثّل النقد المرير الصريح الأوّل الذي أطلق سلسلة من الكتابات النقدية التي تناولت حالة الأنظمة العربية قبل الهزيمة وبعدها من جهة، والذي خالف، وعارض، ونقض كلّ تلك الترّهات التي سوّقتها الأحزاب والأنظمة والأفراد عن أن ما حدث هو "نكسة" فقط، من جهة أُخرى.
ومن المحتوم، في هذه الحالة، أن يُمنَع الكِتاب في معظم الدول العربية، وأن يكون الحصول على نسخة واحدة منه أمراً يتطلّب تهريبها من لبنان ــ حيث كانت حرية النشر تُتيح الكلام الحرّ ــ إلى أي بلد عربي آخر. غير أنني عثرت ذات يوم، منذ سنوات، على نسخة من الكتاب لدى أحد باعة كتب الأرصفة في دمشق. كان غريباً أن يُباع كتابٌ بهذه الأهمّية هناك، كأنّ مَن اقتناه أعلن موقفاً ضدّه، كما هو حال معظم أولئك الذين لا يزالون يجترّون تلك المفردات التي خشيَ المفكّر من أن يواجهوا كِتابه بها.
* روائي من سورية