أُمّي... لقد أنفقتُ آخر النقود التي أرسلتِها لي مع برقيّة "وسترن يونيون" الشهر الماضي، وأنا الآن أجلس هنا، أمام مطعم "الأصناف"، قبل أن أصعد نحو بيتي في منطقة "ليفنت" التي ما زلتُ أسكنها منذ جئت إلى إسطنبول قبل سنوات. أنا أشتهي البرغل يا أُمّي، وبعضاً من الفاصولياء الخضراء، لكنّي لا أستطيع شراء أيّ من الأطباق المعروضة خلف الزجاج، تلك التي أراها تغلي والبخار يكسو نوافذ المطعم الزجاجية. لقد أنفقتُ كلّ المال الذي بحوزتي، والذي لا يتجاوز ثمانية آلاف ليرة تركية. كنت قد دفعتُ جميع نفقات المنزل، من فواتير كهرباء وماء، وبالطبع الإيجار الشهري، الذي يعادل نصف قيمة البرقية المُرسَلة.
أُمّي... أخبرتُكِ في رسالة سابقة، بأنّني لا أستطيع أن أتخرّج من جامعة يلدز التقنية، وأنّني أطمح إلى أن أكونَ كاتباً كبيراً مثل ويليام غاديس أو توماس بنشون أو حتى هنري ميللر، لكنّك يا أُمّي لا تصدّقين أدب ما بعد الحداثة، لأنّ قراءاتك حدودُها إحسان عبد القدّوس. ولأنّك لا تعرفين جميس جويس، فلن تعترفي بما أكتب، وتفضّلين على ذلك تخرُّجي بدرجة شرف من كلية الهندسّة الكيميائية في جامعة يلدز التقنية.
لكن يا أُمي، لا أستطيع سوى أن أكون ذلك الكاتب المهزوم، فأنا أدرس اللاتينية ولا أدرس معادلات ماكسويل، ولا أفقه شيئاً في ميكانيكا الموائع. لا أستطيع سوى التعامل مع ذلك الكائن الحيّ الذي يُطلَق عليه اسم اللغة، فأنا أحاول أن أترجم الأشعار، وأكتب بعض المقالات، وكتابي سوف يُنشَر قريباً، لكن لا أحد يرسل لي النقود يا أُمّي. أنا أجلس هنا في ليفنت وأشمّ رائحة الفاصولياء من خلف الزجاج ولا أستطيع تناوُلها، أنا هنا أتضوّر جوعاً ولا أستطيع شراء صحن الفاصولياء، فأنظر إليها بحرقة، كما ينظر إليها متسوّلو الشوارع وأنا أُفكّر في مقولة غاديس "قد تجد العدالة في العالم الآخر، هنا نحن لا نملك سوى القانون".
اشتريتُ بآخر النقود كتاباً عوضاً عن شراء صحن الفاصولياء
أُمّي، لقد اشتريتُ بآخر النقود التي أملكها كتاباً، عوضاً عن شراء صحن الفاصولياء تلك، لكنّي أشعر بأنّ معدتي بدأت بالانكماش، وبأنّي سأقع أرضاً إن لم آكل، وذلك الكتاب الذي اشتريتُه، والذي عنوانُه "شيري ونهاية شيري" للكاتبة الفرنسية كوليت لم يسعف جوعي، فأنا لا أشعر الآن سوى بذلك الانقباض في معدتي كأنه طعنات السكاكين. لا أستطيع الشعور بكلمات الشاعر التي تقول: "الآن... أو هنا... هذا هو نشيد الأرض". لا أفكّر الآن إلا بمقولة "الجوع كافر"، ولأنّ جوعي كان كافراً، قرّرتُ أن أتسلّل خفية دون أن يراني أحد، وقلت باللغة التركية: "باردون، هل يمكنني أن آخذ صحناً من الفاصولياء؟".
التهمته وخرجت بهدوءٍ، قبل أن أبدأ بالهرولةِ مُسرعاً ثم بدأت بالركض، صعدت نحو الأعلى وأنا ألهث، وبدأت أبحث عن مفاتيح بيتي، صعدتُ السلالم، ودفعتُ الباب بقوّة، وخبّأتُ جسدي تحت الملاءات؛ لقد سرقتْ. أنا سارق! لقد سرقتُ الطعام... وفجأة تذكّرتُ حيفا، وكلمات أُمّي: "ستجوع من وراء الكتابة، ستُصبح مثل شحّاذي شارع الهدار"... وأسمعني أقول تحت الملاءات: أمي، أنا أشعرُ بالجوع الشديد، أنا فعلاً أتضوّر جوعاً.. هلّا أرسلتِ بعض النقود!". وأسمعني أقول تحت الملاءات: "الجوع هنا، أشرف بكثير من جوع حيفا!".
* كاتب من فلسطين