أسئلةٌ ومواضيعُ ملحّة يطرحها ويناقشها كتاب "السياسة الحيوية من منظور الفلسفة الاجتماعية" ("دار سؤال"، 2022) للباحث الجزائري الزواوي بغورة؛ أهمُّها، بالنسبة إلى الفلسفة الاجتماعية اليوم، تلك التي تتمحور حول الجسد والمرض والعنصرية، في حين قد تنتمي المواضيع أو الأسئلة الأُخرى، ومنها تلك المُتعلّقة بالشعبوية أو العدالة الصحّية في النظام الدولي الجديد، أكثر إلى حقل الفلسفة السياسية، من دون أن يعني ذلك، مثلاً، أنّه لا يمكننا مقاربة ظاهرة الشعبوية من منظور الفلسفة الاجتماعية، فنتساءل مثلاً عن الجذور الاجتماعية للظاهرة، وقد نربطها بالاحتقار الاجتماعي أو اللامرئية أو الهشاشة الاجتماعية وغيرها، وهي كلُّها أمراض تعاني منها فئات واسعة من المجتمعات المعاصرة، بعد أن انتقلت صيرورة "نزع الملكية"، كما توضّح نانسي فرازر في كتابها الأخير "رأسمالية آكلة للحوم البشر" ("Cannibal Capitalism") الصادر عام 2020، إلى دول المركز الرأسمالي، ولم تعد أمراً مُقتصراً على دول الأطراف.
انفتح الزواوي بغورة على مختلف المساهمات داخل الفلسفة الاجتماعية المعاصرة، وخصوصاً الفرنسية والألمانية، مُركّزاً على فلسفة ميشيل فوكو، والتي اهتمّ بها منذ وقت مبكّر، مؤرّخاً ومترجماً، في تفان وألمعية قلّ نظيرهما في الأكاديمية العربية، وهي الفلسفة التي تُشكّل، إلى جانب السوسيولوجيا النقدية لبيير بورديو، أبرز المساهمات في الفلسفة الاجتماعية خلال النصف الثاني من القرن العشرين، داخل السياق الفرنسي.
ليست هذه هي المرّة الأُولى التي ينفتح فيها الزواوي بغورة على الفلسفة الاجتماعية، فلقد سبق وقام بذلك في كتابه "الاعتراف، دراسة في الفلسفة الاجتماعية" (2012). وسيفتتح بغورة كتابه بمناقشة مفهوم "السياسة الحيوية" عند ميشيل فوكو، وهو موضوع يطرح نفسه بقوّة في الفكر السياسي والاجتماعي المُعاصر، ويجري توظيفه في مجالات متعدّدة "منها: الصحّة، الأمراض، السكّان، الإنتاج الزراعي والاقتصادي، البحث الطبي، ومختلف وسائل تحسين شروط الحياة، ومنها التكنولوجيا الحيوية... إلخ"، ليتوقّف خصوصاً عند استعمالاته المختلفة، والتي يُجملها في مقاربات أربع تنتمي إلى السياق الفرنسي والألماني والأنغلوسكسوني والإيطالي.
يناقش الكتابُ مفهوم السياسة الحيوية في سياقاته المختلفة
سيتوقف، بدءاً، عند فوكو ومفهومه للسياسة الحيوية، والتي يُجملها الباحث انطلاقاً من كتاب "إرادة المعرفة" كالآتي: "تلك السياسة التي تجعل حياة الناس، بوصفهم كائنات حيّة، موضوعاً لاستراتيجيات سياسية. كما تشير من الناحية التاريخية إلى الانتقال الذي حصل في شكل السلطة في المجتمعات الغربية الحديثة من سلطة قائمة على السيادة والقانون إلى سلطة قائمة على الحياة".
وينفتح الباحث على معالجة هذه القضية مع ديدييه فاسان وغيوم لوبلان. الأوّل سيدرس "مدى تدخّل السلطة العمومية في الأجساد والأحياء، وما يؤدّي إليه من إنتاج أشكال جديدة من السياسة الحيوية"، مُنتقداً تجاهُل فوكو لتحديد مفهوم الحياة في كتاباته المتعلّقة بالسياسة الحيوية، ومُنافحاً عن ضرورة "الانتقال من دراسة السياسة الحيوية إلى دراسة المجتمعات المُعاصرة وفقاً لمفهوم الشرعية الحيوية، التي تعني شرعية الحياة، أي الاعتراف بالحياة البيولوجية بوصفها خيراً أسمى"، كما عبّر عن ذلك في مقالته "السياسة الحيوية ليست سياسة للحياة".
في حين سيلجأ الثاني، غيوم لوبلان، إلى تحليل "علاقة الحيوي بالاجتماعي والقِيمي ضمن مفهوم الحياة الهشّة"، وهو هنا قريبٌ جدّاً من الفلسفة الاجتماعية المعاصرة، والتي تربط الهشاشة بالإقصاء الاجتماعي. ويقترح لوبلان، كما أوضح زواوي بغورة، ثلاثة عناصر لتجاوُز هذه الهشاشة أو هذه "اللعنة الاجتماعية" أو "الموت الاجتماعي"، يقوم أوّلُها على "رفض كلّ فصل بين الحياة الأخلاقية والحياة الاجتماعية"، وثانياً على تمكين المهمَّشين من صوتهم الاجتماعي، أو من سرد هوياتهم، وثالثاً ضرورة ربط التشخيص بالنقد، في كلّ تلك المؤسَّسات التي تهتمّ بمثل هذه القضايا. ولا ينسى الباحث أن يعرّج على مسألة السياسة الحيوية في السياقات الأميركية والألمانية والإيطالية، وخصوصاً السياق الإيطالي مع جيورجيو أغامبن وروبرتو إسبوزيتو.
أمَّا الموضوع الثاني الذي سيشغل زواوي بغورة في كتابه، فلا يقع بعيداً عن موضوع السياسة الحيوية، وأعني الجسد، باعتباره موضوعاً للفلسفة الاجتماعية المعاصرة، أو موضوع الجسد الاجتماعي كما جرت دراستُه في أركيولوجيا وجينالوجيا ميشيل فوكو، وخصوصاً دراسة علاقته بالسلطة، هذه السلطة التي، حسب فوكو، "تولَد من جسد تُمارَس عليه". وكما يعلّق الباحث: "ولا يخضع الجسد لمراقبة وضبط المؤسَّسات العقابية، كما هو الحال في السجن، أو في نموذجه المتمثّل في المشتمل أو 'البنوبتيك'، وإنما يخضع لضبط ومراقبة المجتمع كلّه، وهو ما ظهر جليّاً في مختلف المؤسّسات السياسية والاجتماعية: السجون، الثكنات، المدارس، المستشفيات، الإدارات. وعليه فإنّ الهدف من هذا الضبط والمراقبة لا يتمثّل في التحكّم في قوّة العمل فقط، وزيادة الإنتاج، وإنّما في إنتاج شكل جديد من السلطة".
يميّز بين العنصرية والمركزية العرقية وكره الأجانب
إنّ تاريخ السلطة من تاريخ الجسد، ولا يمكن فصل الإيروس عن الديموس، وليس كما يعتقد التصوّر التقليدي عن الدولة. وهو ما تؤكّده تحليلات أغامبن أيضاً لحالة الاستثناء والإنسان المستباح في التوتاليتاريات الغربية، لينتهي بغورة إلى تحليل آكسيل هونيث للامرئية الاجتماعية، باعتبارها نسياناً للاعتراف.
أمّا الموضوع الثالث للكتاب، والذي لا يقلّ أهمية عن سابقَيه، فهو المرض وعلاقاته بالمجتمع والمعرفة والسلطة كما شرّحها ميشيل فوكو، ولا يمكننا أن نقول، كما قد يعتقد الباحث، بأنّ فوكو لم يطرح سؤال المرض الاجتماعي، ولكن لربما يكون من الأصحّ أن نقول بأنه لم يفهمه باعتباره مرضاً يصيب المؤسّسات الاجتماعية كما يفهمه آكسيل هونيث ومن خلفه هيغل. فالمرض الاجتماعي لا يرتبط فقط بالمؤسّسات والممارسات الاجتماعية، ولكن أيضاً بالأفراد، والذين تُعمّق التناقضات الاجتماعية أو فشل الاندماج الاجتماعي من مرضهم العضوي أو النفسي.
إنّنا، كأفراد أيضاً، لا نمرض إلّا داخل المجتمع، بل يتوجّب وبالنظر للتطوّرات الأخيرة، أن نتحرّر من كلّ مركزية سوسيولوجية في دراسة الباثولوجيات الاجتماعية، كما يؤكّد على ذلك برونو لاتور، فلقد دخل لاعب جديد، وبقوّة وإلحاح، إلى حلبة التفكير في المرض؛ وهو الطبيعة وما تشهده من تغيّرات تؤثّر في حياة الإنسان وصحّته ووضعه الاجتماعي.
يتوقّف بغورة أيضاً عند قضية في غاية الأهمية، وهي العنصرية التي أضحت ملازمة للمجتمعات المعاصرة، وإن بشكل مختصر، مميّزاً العنصرية عن المركزية العِرقية من جهة وكره الأجانب من جهة ثانية، باعتبارها موقفاً "يفيد أنّ أفراد الجماعة متميّزون ومتفوّقون، وأنّ عِرقهم يمثّل مركز العالم". ويعرج بغورة خصوصاً على ديديي فاسان والكتاب الذي أشرف عليه، الموسوم بـ"الحدود الجديدة للمجتمع الفرنسي"، والذي يُعالج مسألة العنصرية من خلال الحدود الداخلية للمجتمع التي قد تبدو لامرئية، تمييزاً لها عن الحدود الخارجية المرئية، ويعني بذلك "لون البشرة، والأصل العرقي، والدين.."، ولربّما لن نستطيع دراسة العنصرية داخل الحداثة دون دراسة العلاقة العضوية بين العنصرية وطبيعة النظام الرأسمالي كنظام اجتماعي، وهو ما ستُحلّله الفيلسوفة الاجتماعية نانسي فرازر وهي تتحدّث عن رأسمالية كانيبالية.
يقدّم كتاب الزواوي بغورة مدخلاً متميّزاً لبعض قضايا الفلسفة الاجتماعية المعاصرة، وفي مختلف السياقات الغربية، ولربما ما ينقص مثل هذه الأعمال البحثية أنّها لا تتجاوز التأريخ للفلسفات الغربية إلى محاولة قراءتها من خلال سياقنا الاجتماعي وأسئلته وقضاياه. وكيف لها أن تُحقّق ذلك ونحن نفكّر داخل سياق تعدمه مؤسّسات بحثية مؤهَّلة لدراسة المجتمعات العربية، أو تنصرف أغلب مؤسّساته البحثية، في نوع من التساهل الذي لا يخلو من سياسوية ضيقة، إلى التركيز على قضايا سياسية، مغفلة أنّ السياسة امتداد للمجتمع بمؤسّساته وثقافته وتاريخه.
وعلاوة على كل ذلك، فإنّ المشكلة تكمن أيضاً في اغتراب الممارسة الفلسفية، إن صحّت تسميتها كذلك، عن مناهج ونتائج العلوم الاجتماعية، وعبر ذلك عن واقعها، فلا يتبقّى لها من مجال تُعبّر فيه عن نفسها سوى التأريخ لأفكار الآخرين، وفي غالب الأحيان في نوع من السكولائية العقيمة.
* باحث وأستاذ فلسفة من المغرب