اعتمدت الجوائز العربية مبدأ عدم التدخُّل في الشؤون الداخلية لأيّ بلد، اتّخذ طابعاً أدبياً في الرواية، باستبعاد السياسة، لئلّا تمسّ شأناً سيادياً متعارفاً عليه دولياً. أدّى إلى الحرص على وضع الروايات المشاركة في الجوائز تحت الرقابة، خصوصاً الروايات السورية.
ولقد كان في هذا القرار الذي جرى التوافق عليه من دون إعلان، ولم تتضمّنه شروط الجوائز، أنّه لم يوفّر على الروائيِّين المشاركة، إذ كان مردوده الدعائيّ على الجوائز جيِّداً برفع نسبة الإقبال عليها. لكنْ مع وضع العوائق أمام السوريّين، على سبيل المثال، نال الحظر ما يزيد عن مئة روائي سوري من اللاجئين في بلدان العالم، والذريعة الحقيقية كانت الشُّبهة السياسية، بينما المُعلنة كانت بريئة.
كانت البراءة هي الحجّة الأقوى، في أنّ ما دُعي بالرواية السياسية تفتقر إلى الفنّ، وهي من أسهل أسباب المنع وأصعبها، لأن أصحاب القرار ومثلُهم لجان التحكيم لا يعرفون بالضبط ما هو الفنّ الذي تفتقر إليه الرواية السياسية، فالفنّ عالم واسع جدّاً، يتّسع لكلّ شيء ولا شيء، وهذا من مزاياه، فلم تستطع اللجان على تعدُّدها، التعريف به، أو ماذا يكون؟ فكان يتبدّل من دورة لأُخرى، ولم يكن إلا ما ترتئيه اللجان، وكان كيفما اتّفق، يُسبغ على الرواية الفائزة. وإذا كان من ملاحظة في هذا الصدد، فمن فرط غموض الفنّ حسبما يُدّعى ويُسوَّق، يبدو توافره مثل عدم توافره.
إن كان من شيء يسعى الروائي إلى إرضائه فهو ضميره فحسب
لم يهتمّ الروائيون السوريون الذين كتبوا في البلدان التي لجأوا إليها بنظافة رواياتهم من السياسة، إذ لا يوجد روائي في العالم يضع في ذهنه مسبقاً إخفاء أو تجاوز، أو إغفال، أو التعامي، أو مصادرة ما يفكّر فيه. في الواقع لا يدري بالضبط تفاصيل ما سوف يكتبه. هذا إذا كان يحترم مهنته كروائي، فهو لا يكتب إرضاءً لدولة أو لنظام أو لأحد، وإذا كان هناك ما يحاول إرضاءه فهو ضميره كروائي.
لم تعترض لجان التحكيم، حتى أننا لم نشهد مُحكّماً احتجّ على هذا التفسير للفنّ، بل كانت لهم اليد الطولى في الانصياع للتعليمات والمبالغة فيها، بإبداء حُسن نيّة نحو الدول أصحاب الجوائز. المفارقة أنّ هذا القرار كان سياسياً، أجمع عليه المسؤولون عن الجوائز، والطاقم المتتالي من المحكّمين الأبرار، بذلك أصبحت الجوائز وسيلة لقمع حرية التعبير في الرواية، وتوجيهها نحو روايات غير مُسيَّسة. هذا ما يجب أن يُقرأ.
لم يتصوّر الكتّاب السوريون الذين عاشوا في دولة شمولية تحكُمها الأجهزة الأمنية، وزار بعضهم السجون زيارات قصيرة لساعات غير معدودات، أو أياماً امتدّت سنوات، وتعرّض للتعذيب والإهانة، طوال زمن يُقدّر بأعمار أولادهم الذين أصبحوا شباباً، فـ الزمن الدكتاتوري امتدّ ما يزيد عن نصف قرن، وما زال مستمرّاً. من أين يمتح رواياته؟
هناك أجيال كاملة من السوريّين مُحاصَرون بحياتهم التي عاشوها، ما انعكس على الرواية، وبالضرورة على حياة الروائي، ولا يُمكن له أن يكتب عن قصة غرامه، أو مغامراته، أو تساؤلاته الوجودية، وربّما مباذله وجنونه... إلّا على خلفية من القمع والحروب والتضييق على الأنفاس، لا سيما السنوات العشر الأخيرة التي طاولتها احتجاجاتٌ، وانتفاضة، وثورة، وحرب أهلية، وإرهاب، وحصار وجوع وتركيع، وقنص وتهجير ونزوح، وباصات خضراء وقصف وتعذيب، ومفخَّخات ونهب وسلب واختطاف، وكيماوي وتمثيل بالجثث وموت يومي بالجُملة.
هل يُمكن للروائيّين أن ينجوا من الكتابة عن رعب عاشوه؟
بالمقابل، تريد الجوائز أن يغفل الروائي عن هذا الرعب، أو يهمله، وفي الواقع يتقاعس عنه ولا يأبه به، ويكتب عن مشاعره خالصة من الرعب وأحاسيسه بلا خوف. بينما المآسي تتحرّك نصب عينيه، وتعشّش في داخله. كيف ينجو منها، إذا كان يرزح تحتها، سواء كان سيكتب عن الحبّ أو الكراهية، الجنس أو الطعام، أو التوق إلى المجهول، أو ما ينشده من سلام واستقرار، أو موت مريح.
بعض الروائيّين السوريّين الذين في الداخل وعَوا هذه المعادلة، وزعموا الحياد، وتسلّلوا إلى عرين الجوائز، لم يُغفلوا الثورة ولا الحرب، المهمّ ألّا يأتوا على ذكر النِّظام بسوء. أما جرائم الأجهزة الأمنية، فالإيحاء بأنها تعمل بشكل مستقلّ عن الدولة. فكانت رواياتهم نظيفة، ومن فرط نظافتها تخفَّت على المُخبر والفاعل والقاتل والمجرم والسارق والخاطف وحتى الشبيح... وطبعاً على رأسهم الدكتاتور. وكتبوا روايات لا تقترب من الحدث السوري إلا حسب المواصفات؛ تُدين الثورة على أنها عميلة، وتستثمر في الضحايا على أنهم ضحايا الإرهاب، والأهم تبنّي سردية النظام، هل هي السردية التي تعتمدها الجوائز؟
أخيراً، الرواية ساحة للحقيقة، يقضي الكاتب عمره في البحث عنها ومحاولة تلمّسها، لكنّ الجوائز اختُرعت في عالمنا العربي لاغتيال الحقيقة. في يوم قادم، سيوجّه الاتّهام إلى أولئك الذين كانوا أوفياء للظلام.
* روائي من سورية