"الحركات الاحتجاجية": ستّ سنوات في تونس والجزائر والمغرب

29 مايو 2023
من احتجاج لحركة 20 فبراير المغربية في الرباط، في الثاني من حزيران/ يونيو 2013 (Getty)
+ الخط -

يتناول الكتاب الجماعي "الحركات الاحتجاجية في تونس والجزائر والمغرب (2011 ــ 2017)"، الذي صدر حديثاً عن "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات" بتحرير مهدي مبروك، نماذجَ من الحركات الاحتجاجية التي شهدتها تونس والجزائر والمغرب خلال الموجة الأولى من الانتفاضات العربية.

ويبيّن المؤلَّف ( 376 صفحة) كيف أن هذه الحركات تُعَدّ مؤشراً مهمّاً دالّاً على تحرّر الفضاء العام، ودينامية مجموعات العمل الجماعي، وقدرتها على ابتكار أشكال مختلفة للتعبير الاحتجاجي، وتعبئة الموارد والتنظيم الذاتي، فضلاً عن دلالتها على نمو حركية المجتمع، وإعادة إنتاج فاعليه ونخبه، وصياغة مهماته وأدواره على نحو مغاير. 

يضمّ الكتاب عشرة فصول تستند إلى مقاربات نظرية ومنهجية متنوّعة؛ وهي فصولٌ موزعة جغرافياً على ثلاثة بلدان مغاربية، شهدت حركات احتجاجية لها خصوصياتها مع بعض القواسم المشتركة، مع العِلم أن هذا التصنيف الجغرافي يؤكد خصوصيات الظواهر الاحتجاجية، من دون أن ينفي وجود حالات تشابه مع تقاطعات عدة؛ منها أنماط التعبئة، وأساليب الاحتجاج ومآلاته.

في الفصل الأوّل، "الحركات الاجتماعية والاحتجاج في سياقات انتقالية"، يقدّم عبد الرحمن رشيق ورقةً هي أقرب إلى مدخل نظري معمّق للمقاربات النظرية السوسيولوجية بشأن تحليل الاحتجاج الاجتماعي؛ احتجاجٌ يعبّر عن السلوك الجماعي ويترجم التغيرات الاجتماعية. ويرى الباحث أن مصطلح الاحتجاج "فضفاض"، تتأرجح معانيه بين الفتنة والانتفاضة والشغب والفوضى والقلاقل والعصيان، وحتى الثورة أيضاً. ويصنّف الباحث السلوك الاحتجاجي في ثلاثة أنواع، هي: الانتفاضة، والحركة الاجتماعية، والحركات الاجتماعية الجديدة.

حركات تُعَدّ مؤشراً مهماً دالّاً على دينامية مجموعات العمل الجماعي وقدرتها على ابتكار أشكال مختلفة للتعبير الاحتجاجي

أمّا في الفصل الثاني، "جدل الهوية والذاكرة والمجال"، فيتوقّف محمد أحمد بنيس عند أحد أبرز الظواهر الاحتجاجية خلال السنوات الأخيرة لانتفاضة الريف المغربي؛ إذ يبيَّن أن حراك الريف مثّل تحوّلاً نوعياً في سيرورة السلوك الاحتجاجي، وإضافة نوعية للجيل الجديد من الاحتجاجات المغربية، ومنعطفاً مهمّاً في انتقال الاحتجاجات في المغرب من طور الانتفاضة إلى طور الحركة الاجتماعية. ومن بين ما كشفه الحراك فقرُ العرض السياسي الذي قدّمته السلطة، وإخفاقها في بلورة مشروع تنموي متكامل يقلّص الفوارق المجالية بين مختلف الجهات والمناطق، وعجزها عن التفاعل مع مطالب الحراك، وتردّدها في إيجاد حل مناسب يستوعب الجوانب التاريخية والتنموية للاحتجاجات التي أطلق شرارتها مصرع محسن فكري. 

ويُبرز الباحث انهيار مؤسسات الوساطة التقليدية (الأحزاب، والنقابات، والنخب المحلية...)، وتهافت الأحزاب تحت غطاء التعددية الشكلية، وعجز النخب التي ما عادت قادرة على القيام بأدوارها في التأطير والوساطة، نتيجة احتكار السلطة الحقل السياسي، وإخفاقها في إحداث دينامية فاعلة في قنوات التواصل بين الدولة والمجتمع، وهي كفيلة بحل إشكالات المشاركة والديمقراطية والتنمية.

في الموضوع ذاته، يسعى رشيد جرموني، في الفصل الثالث، الذي يحمل عنوان "حراك الريف في المغرب: من حركة احتجاجية إلى حركة اجتماعية: نحو مقاربة نقدية جديدة لقراءة الحراك"، إلى الإجابة عن سؤالين محوريين، هما: كيف استطاعت الحركة الاجتماعية في الريف أن تصمد أكثر من عام؟ وما العوامل الأساسية التي جعلت هذا الحراك يشكّل تحوّلاً نوعيّاً في مسار الحركات الاحتجاجية بالمغرب؟ ويختبر جرموني، في ورقته، مفهومين جديدين من سوسيولوجيا الحركات الاجتماعية؛ هما "اللاحركات الاجتماعية" لآصف بيات (2014)، و"الفعل الجمعي والفاعلين غير الجمعيين" لألبيرتو ميلوتشي (1983). 

بدوره، يذهب أحمد إدعلي، في الفصل الرابع، "الدينامية الاحتجاجية في الريف المغربي: بحث في بواعث الاحتجاج واستراتيجيات التعبئة"، نحو فهم الدينامية الاحتجاجية في منطقة الريف، عبر دراسة بواعث الاحتجاج، واستراتيجيات التعبئة، وصيغ التأطير، والموارد التي جرى استثمارها، وكيفية بناء المعاني المستثيرة للنضال والمُحرّضة على "تأجيج الطاقة التعبوية"، خصوصاً أن الفعل الاحتجاجي في المغرب ظلّ في حالة كمون طوال تسعينيات القرن العشرين والعشرية الأولى من القرن الحادي والعشرين إلى حين انبعاث "حركة 20 فبراير"، وبعدها بخمسة أعوامٍ تقريباً انطلقت أحداث الريف، بعد مقتل السمّاك محسن فكري في الحسيمة سَحقاً بشاحنة نفايات.

في الفصل الخامس، "خطاب المقاومة واستراتيجيات إخضاع التابوات السياسية للنقاشات العمومية في المغرب (2011 ــ 2014)"، يعرض مولود أمغار طبيعة العلاقة الجديدة التي ينسجها المجتمع المغربي مع السلطة السياسية خلال الفترة ما بين 2011 و2014، ولا سيما أن الحراك الاجتماعي والسياسي، الذي قادته "حركة 20 فبراير" بالمغرب تحت شعار "إسقاط الفساد والاستبداد"، شكّل فرصة مواتية للكشف عن طاقات الفعل الجماعي الكامنة لدى الشباب المغربي.

الحركات الاحتجاجية

على المستوى التونسي، يطرح كاظم دبيش، في الفصل السادس، الذي يحمل عنوان "لجان حماية الثورة في تونس: النشأة والمسار"، عدداً من الأسئلة، مثل: كيف نشأت لجان حماية الثورة وانتشرت؟ وما الأدوار التي مارستها؟ وما صيغ تفاعلها مع مكونات المشهد السياسي والمشهد الاجتماعي؟ وما المسارات التي اتبعتها؟ وما طرائق اشتغالها؟ وللإجابة عن الأسئلة المطروحة، يعمد دبيش إلى معالجة الوقائع الموثّقة، مستقرِئاً ومُحلِّلاً مجمل الوثائق والبيانات الصادرة عن لجان حماية الثورة، وشهادات بعض المؤسسين الأوائل والناشطين في صلبها، موظَّفاً في ذلك نظرية هيكل الفرص السياسية، لربطها بين الحركة الاجتماعية ومحيطها السياسي.

أمّا رحمة بن سليمان، فتتناول في الفصل السابع "استراتيجيات تعبئة الموارد والتفاوض مع الفاعل السياسي في "اعتصام الصمود" من أجل تفعيل مرسوم العفو العام". وتسعى الباحثة إلى فهم ظروف نشأة هذا الاعتصام، ومعرفة الميكانيزمات التي وظّفها في التعبير عن مطالبه، والبحث في تفكيك مختلف الأشكال الاحتجاجية المعتمدة من المحتجّين في الضغط، والوسائل الموظّفة للتعبير عن رفضهم استمرار تهميشهم وحرمانهم من جانب الحكومات المتعاقبة، وعمليّات التعبئة المعتمدة.

حملة "مانيش مسامح" (لن أسامح) هي موضوع اهتمام جابر القفصي في الفصل الثامن، "هل تمثّل الحركات الاحتجاجية الشبابية منافساً جدّياً للحركات العمالية والنسوية التقليدية في الفعل الاجتماعي؟ حملة "مانيش مسامح" مثالاً تطبيقياً". ويطرح الباحث إشكالية مدى اعتبار هذه الحملة حركة اجتماعية، فضلاً عن أهم الخصائص التي تميزها من الحركات التقليدية النقابية والنسوية، وتجعلها مرشحة لتكون بديلاً منها، كما يتطرّق القفصي إلى أفق استمرارها ونجاحها في تحقيق جزء من أهدافها.

وعن دور التكنولوجيا الرقمية في الحراك الجزائري، يقدّم عيسى مراح، في الفصل التاسع، ورقة بعنوان "التنديد والاحتجاج عبر شبكات التواصل الاجتماعي: نحو تجديد أشكال المشاركة السياسية في الجزائر قبل 2019"، متسائلاً عن إمكانية تحول الخطاب الغاضب في الشبكات الاجتماعية إلى مصدر للالتزام السياسي. ويذكّر الباحث بأن وضعيات التعبير الاحتجاجي والمشاركة السياسية الرقمية تصاعدت بعد عام 2011، في مقابل انغلاقٍ تامٍّ للمشهد السياسي، وتجميدٍ للمعارضة، وتحييدٍ للمجتمع المدني. لهذا، يعدّ التنديد في شبكات التواصل الاجتماعي الرقمية تعبيراً عن الفعل الاحتجاجي الافتراضي، شكلاً مستحدثاً من أشكال المشاركة السياسية غير التقليدية والبديلة. وهو يرى أن الرسائل الاجتماعية التفاعلية والاحتجاجية، والاستراتيجيات الخطابية التي اتُّبعت، أعادت صوغَ الغضب، وشحذت الوعي بالالتزام الجماعي وتجديد أشكال الفعل السياسي؛ وهذا ما أدى إلى بزوغ بوادر واعدة متعلقة بالوعي بالواقع وبحركية تغيير الوضع القائم، فضلاً عن التمهيد للتعبئة غير المسبوقة التي شهدها حراك 22 شباط/ فبراير 2019.

أمّا كمال شكلاط، فيثير في الفصل العاشر، "تعبئة من دون ثورة: لماذا فشل الحراك الجماهيري قبل 2019؟ تحليل نقدي لحالة التنسيقية الوطنية من أجل التغيير والديمقراطية في الجزائر"، إشكاليةً حول السبب أو الأسباب التي جعلت الجزائر في "مأمن" من عاصفة سقوط الأنظمة القوية، وعن بقائها  خارج الديناميات الثورية العربية، وبقاء التعبئة التنسيقية محدودةَ الانتشار في جغرافيا البلد.

ويعرض الباحث لمسار تشكّل "التنسيقية" منذ مطلع 2011، وتركيبتها المكونة من فاعلين مدنيين وسياسيين ونقابيين. ويذكّر بأن التنسيقية قادت تحركات احتجاجية ابتداءً من 12 شباط/ فبراير 2011، وبأنها حركة اجتماعية متعددة القطاعات، أسّسها ممثلون عن المجتمع المدني وأحزاب سياسية ونقابات وشخصيات مستقلة. ومن معززات ظهورها -كما يشير- بناءُ تقارب بين المجموعات غير المتجانسة التي كان يفصلها كل شيء؛ فوجود الأحزاب السياسية في التنسيقية، وإن كانت أحزاباً هامشية، لم يكن يمثّل التحالف المبتكر الوحيد. ويبيّن الباحث أن تركيبة الفاعلين في المظاهر الاحتجاجية كانت غير متجانسة، وأنها تكشف عن تركيبات أخرى غير مسبوقة أيضاً، وأنّ الهدف الأساسي من التنسيقية كان جمع القوى السياسية والاجتماعية للنضال الجماعي؛ من أجل التغيير الديمقراطي، والإفراج عن المعتقلين، ورفع حالة الطوارئ، وفرض المشاركة السياسية.

المساهمون