يُعرِّف الوثائقي الذي عرضه "التلفزيون العربي" مؤخّراً، ضمن سلسلة "مختفون"، قسماً كبيراً من الجمهور العربي، الشابّ منه تحديداً، على مناضلٍ فلسطيني من صنف خاص. إنه القيادي في حركة "فتح" حنّا ميخائيل، الذي ضاع أثره في البحر، قُبالة سواحل شمال لبنان عام 1976، خلال الحرب الأهلية.
هناك عدّة محطّات يُمكن التوقّف عندها في سيرة ميخائيل، كما هو الحال في سيرة أيّ مناضل فلسطيني، نظراً إلى ثراء هذه التجربة المستمرّة وامتدادها. لكن، هناك نقطة محدَّدة تستحقّ الانتباه اليوم، لاتّصالها بوسيلة ترهيب تُمارَس ضدّ المتضامنين مع القضية الفلسطينية في الغرب. اختار "أبو عُمر"، كما كان يُلقَّب، ترْكَ منصبه الأكاديمي في الولايات المتّحدة، وعاد عام 1969 ليلتحق بالعمل الفدائي في صفوف المنظّمة الفلسطينية الأقوى حينها. أتى ذلك في أعقاب نكسة 1967، كأنّه أراد الردّ على الهزيمة بأدوات وقوعها نفسها، لا بأيّة وسيلة نضال سِلمية أُخرى، مع حرصه على تثقيف مقاتلي الثورة الفلسطينية وزيادة وعيهم وتنظيمهم.
فهمَ حنّا ميخائيل المعادلة مبكراً: اختيار القضية الفلسطينية ثمنُه خسارة العمل لدى الغربي الذي أوجد "إسرائيل". هذا ما تؤكّده ممارسات وسائل إعلام عالمية مع موظّفيها؛ من رقابة تمنعهم من التعبير عن تضامنهم مع الشعب الفلسطيني ومقاومته في ظلّ العدوان المستمرّ، وهو ما تفعله كذلك جامعات ومؤسّسات أكاديمية وبحثية مع أساتذتها وطلّابها، سواء كان هؤلاء من الفلسطينيّين أو العرب أو الأجانب، في بُلدان الغرب جميعها، التي صدّعت رؤوس البشر بالحديث عن حرية الرأي والتعبير، ودأبت على إظهار نفسها كأرضٍ لكلّ المعتقدات وفضاءٍ لكلّ الآراء. لكنّ قوات أمنها - التي تهرع بكلّ غطرسة عند رؤية عَلم فلسطيني مرفوع على سيارة أو مرفرفٍ فوق سطح بيت - فضحت الكذبة، وأخرجت الديكتاتورية المغلّفة بالعديد من طبقات "الإتيكيت".
تُثبِت الممارسات السابقة كلّها جمود مصطلح "حرية التعبير" ونظريته وتحوّله بمرور السنين إلى صَنمٍ يُعبد من دون أن يُساءل. ليس هذا المصطلح وحده في هذا التكريس الأعمى، بل مصطلحات أُخرى أيضاً. نذكر اثنين منها أبرزتهما المجازر الإسرائيلية المرتَكبة يومياً في الحرب الدائرة في غزّة، والتي يجب أن تُعيد تعريف مفاهيم عالمية كثيرة بشكل رسمي.
كأنّ هوية الضحية حكر على طرف واحد تحوّل إلى ضحية أبدية
المصطلح الأول هو "الإرهاب". ما هو الإرهاب؟ ما تعريفه؟ ومن يضع هذا التعريف؟ أيعني فقط أن يُستلَّ سيفٌ من عصر غابر ويُقطع به رأس إنسان مُقيَّد اليدين؟ ألا يُمكن أن يُمارسه رجل بربطة عنق، يجلس خلف مكتب خشبي صقيل، من خلال جَرّة قلم ترمي موظّفاً وعائلته خارج أمانه الوظيفي والحياتي، لأنّه قال ما لا يُعجب ربّ العمل والمنظّمات الداعمة له؟
عندما تقع حادثة إطلاق نار في مكان عام في الغرب، تقول وسائل الإعلام (بما فيها بعض وسائل الإعلام العربية) في الدقائق الأُولى بعد العملية، إنّ دوافعها لم تتّضح بَعدُ إن كانت "إرهابية" أم لا، قاصدين بذلك الخلفية القومية والدينية لمُنفّذها. لكن، هل يحدّد هذا الأمر خلفية العملية، ما دام أنّها أدّت، في كل الأحوال، إلى إرهاب الناس وترويعهم وإزهاق أرواحهم؟ هل هوية الفاعل أهمّ من ماهية فِعلته؟ حسناً، يبدو الأمر كذلك، وإلّا ما السبب في عدم رؤية العالَم للإرهاب الصهيوني الذي يُغير على منازل المدنيّين وقوافل نزوحهم، ثم يُعيد الإغارة على المستشفيات التي استقبلت من نجا منهم؟
وكما أنّ دور "الإرهابي" جُعِل محصوراً بطرف واحد، كذلك فإنّ هوية الضحية هي حِكرٌ على طرف واحد، تَحوّل إلى ضحيّة أبديّة حتى وهو يُكمل ما بدأه جلّاده النازي قبل ثمانين عاماً في أوروبا، منذ ما يُقاربها من السنوات فوق أرض فلسطين المحتلّة. نيّة ارتكاب محرقة في غزّة موجودة ومُعلنة عند جيش الاحتلال. ومجدّداً، ماهية الفعل، والنيّة الجرمية في ارتكابه، تأتي في المرتبة الأُولى، وإن كانت أدوات العصر الحالي الإعلامية تُبطئ زخم تنفيذ الجريمة، وتجعلها مُقسَّطةً على عدّة عدوانات لا تكاد تفصل سنتان بين واحدها والآخر.
"إسرائيل" التي تُحرق وتُذوّب بالفوسفور الأبيض البشر والحجر والشجر، في غزّة وجنوب لبنان، هي ضحيّة المحرقة في نظر "المجتمع الدولي"، وهذا مصطلح مُحيّر آخر. وهي من وجهة نظر هذا "المجتمع الدولي" نفسه ضحيّة ومدافعة عن نفسها، حتى وهي تُحيل غزّة جحيماً ومحرقة.
* كاتب من سورية