الحرب ضد نيتشه

28 ابريل 2023
جنود بلاستيكيين في سانتياغو بتشيلي عام 2013، تنديداً بانقلاب بينوشيه بذكراه الـ40 (Getty)
+ الخط -

اللافت في سلوك مُشعلي الحروب أنهم يميلون للتبشير بالمثل، بينما يمكن أن يرتكبوا الجرائم حين تبدأ حروبهم، وهم يقتلون مئات الآلاف من البشر بحجّة الدفاع عن البشر، ويدمّرون مساحات هائلة من العمران بذريعة الدفاع عن المدن، ويدفنون الحرية والأخلاق والقيم الإنسانية بدافع الذود عن الحرية. ولم يحدث في التاريخ أن ذكر قائدٌ ما أغراضَه الحقيقية من خوض الحرب، منذ فجر التاريخ المكتوب حتى اليوم.

ويمكن للتحليل العسكري والأخلاقي أن يفصّل كثيراً في كشف الأهداف الحقيقية، وفضحها في حالات كثيرة. ومع ذلك، فإن قادة الحروب يزيدون أكثر فأكثر في ابتكار الأفكار الكبيرة والنبيلة لوصف أهدافهم من الحرب، كأنّ الحرب تتغذّى بالفكرة العظيمة، بقدر ما تتغذى بالأجساد والرصاص. وكل ذلك مسَخَّرٌ لهدف آخر خفيّ، ومستقرّ على الأرض، يُسَمّى المنفعة، أو المصلحة، التي تؤخَّر أو تخفى تماماً. 

غير أن الحقيقة هي أن مَن يشعل الحرب، ويضع المبادئ، ويسوّق الأفكار العظيمة عن ضرورة قيامها، لا ينظر إلى عظمة الفكرة، ولا إلى نُبلها، بل إلى قوّتها في صناعة الطاعة لدى ذلك الجندي الذي سيقاتل تحت إمرته، كي يكون مستعدّاً للقتال والتضحية بنفسه. 

دائماً كان الجنود يثيرون الحيرة، إذ لا يقولون "لا". فهم الذين يُضَحَّى بهم كلّ مرة، اليوم، وأمس، وفي كلّ مراحل التاريخ، ومع ذلك فإنهم يستبسلون في الدفاع والموت عن قضايا لا ينتفعون منها شيئاً، في الحروب وفي الثورات. ففي غالبية الحروب لم يجنِ الجنود شيئاً من الانتصار، إذ ذهب إلى القادة الذين كسبوا السلطة والمال، ولا من الخسارة، إذ دفعوا هم ثمن الهزائم. وفي الثورات خاضوا المعارك، وماتوا، ثم وُضعوا في الظل. 

يثير الجنود الحيرة في استبسالهم لقضايا لا ينتفعون منها شيئاً

أخذ الثورة الفرنسية مجموعة من السفّاحين الذي أقاموا المقاصل للتخلّص من أي صوت يمكن أن يؤثّر على سلطتهم، بينما استولى السياسيون على ثورة أكتوبر الروسية وأبعدوا الجنود والعمّال إلى العتمة، بل جعلوا منهم وقوداً للحرب التي خاضوها ضدّ الجيش الأبيض، وجرى تعظيم القادة وحدهم. والمؤكَّد أيضاً أن قادة الجيش الأبيض غذّوا حربهم ضد الجيش الأحمر بقضايا كبرى.

أين هم أولئك الذين ماتوا في حروبنا كلّها؟ وما الذي جنوه، أو جناه أحبابهم؟ سخر كلايف بل في كتابه "المدنية" من أن الزعماء قادوا الناس إلى الحرب الأولى في القرن العشرين من أجل الدفاع عن المدنية، وكذلك فعل الجنود، وقال إنه أراد أن يسأل: ما المدنية التي تريدون الدفاع عنها بواسطة الحرب؟ ولكنه لم يجرؤ، لأن السجن سيكون عقاباً لمَن يسأل في زمن التعبئة. بينما سبق أن اعتُقل شفيك في رواية "الجندي الطيب شفيك وما جرى له في الحرب العالمية"، لأسباب أقل أهمية من ذلك، حين سخر من الحرب القادمة. 

وأكثر الأمور طرافة هي أن أحد المتحمّسين للحرب العالمية الأولى من بين القادة الفرنسيين قال إنها حرب ضد نيتشه. من هو نيتشه؟ انتشرت المقولة انتشاراً واسعاً، كما يذكر كلايف بل، وقاتل الجنود فعلاً ضدّ رجل لا يعرفه واحدٌ من بين عشرة آلافٍ من بينهم.
 

* روائي من سورية

موقف
التحديثات الحية
المساهمون