تبدو لحظة قراءة قصائد الشاعر المغربيّ عبد اللطيف اللَّعبي (1942)، في ديوانه "الأملُ عُنوةً"، والصّادر مؤخَّرًا عن "دار الرّافدين" (بترجمة محمد خماسي عن الفرنسيّة)، مثلَ الذي يَستعيدُ بين يَقظتهِ ومَنامه قصائدَ لا يدري من أينَ حفظها وكيفَ يُردِّدها، لكنَّه ينتشي ويتلذَّذ بها، ويَشعُر بها في حواسه، غير أنَّ الإمساك بها أحيانًا قد لا يَتم مِن المرَّة الأولى. ذلك أنَّها منسوجةٌ بطريقةٍ خاصّة، قائمة على تَجربةٍ طويلة في الكتابة الشِّعريّة، وحياةٍ مليئةٍ، بما يَجعلُ هذه الكتابة مكتملةً في بنائها، ومسؤولة في أفكارها.
شكَّل صاحب "أزهرت شجرة الحديد" (1974)، علامة في مسيرة الأدب المغربي والعربي، ابتدأها شاعرًا ومثقَّفًا طليعيًّا له مواقفه الحقيقيّة من الثّقافة والسياسة والفَنِّ والمجتمع، ولم يكن تعرُّضه للاعتقال وسجنه لِما يُقارب ثماني سنوات ونصف السنة، سوى مرحلة صقلت قدرته على الكتابة، وزادت من إصراره على التمسّك بقضاياه الإنسانيّة التي نذر لها نفسه. بالتالي، خرج شِعره من روحٍ ثائرةٍ، ساخرة برقّة، ناقدة بصدق، وغير مستسلمة بطبيعة الحال، وظلَّ "شاعر الهامش" يغرِّد لوحده من دون انتماءٍ أو تبعيّة، ذلك الهامش الذي يصفه في كتابه "الهوية: شاعر" (1997) بأنَّه "فضاء الاستكشاف الوحيد الذي لا يزال به مجال للمشاطرة والتقاسم".
كتب اللَّعبي أغلب أعماله بالفرنسيّة، ووصلت إلى العربية مُترجمة، وحاز بفضلها العديد من الجوائز العالمية المهمة. كما أنَّه شكّل جسرًا ثقافيًا في نقل الأدب العربي إلى الفرنسية، فترجم العديد من الأعمال الأدبيّة الشعرية (لمحمود درويش وعبد الوهاب البياتي وعبد الله زريقة وسميح القاسم ولغيرهم) والروائية (غسان كنفاني وحنا مينة، على سبيل المثال)، وأصدر أيضًا أنطولوجيات أبرزها أنطولوجيا للشعر الفلسطيني (1970)، وأتبعها العام الماضي بأنطولوجيا للجيل الشعري الفلسطيني الجديد (2022)، وبين هذين التاريخين لم يفتر التزامه بالقضية الفلسطينية.
قصيدة مُفكِّرة، قلقةً، ومشغولة، فحواها الإنسان
توزَّع ديوان "الأَمَلُ عُنوَةً" على خمسة عناوينٍ داخليّة يمكن اعتبارها مداخل إلى عوالم القصائد، فما بين "طفحت الكأس"، و"وجهًا لوجه مع الكارثة"، و"القصيدة على سجيَّتِها"، و"هِيَ"، و"إبراء الذّمة"، تنحو القصائد مناحيَ عدّة، سيَريّة، اجتماعيّة، ثوريّة، تَحرُّرية. وهي بالنتيجة، قصائد عاشقٍ ينبض قلبه بالحياة، ينبض شعورًا بالآخر، الإنسان الذي يَقطن في جهات الأرض، يُشارِكه حياته: أفراحه الصغيرة ومآسيه، مدافعًا دائمًا عن كرامته، مُطالبًا بحياةٍ لا يُهانُ فيها ولا يفقدُ إنسانيّته.
قصائد اللَّعبي مُشبَعة بروح المسؤولية الثوريّة التي يمليها الشاعر على صنيعه الفنّي وعلى العالم في آن، معاندًا السلطات التي تحاول دفن هذا الكائن (الشعر) بما تفرضه عليه من قيود وتعاليم ــ على اختلاف السلطات ومُسمياتها ــ، فالشِّعر عنده طريقة للقول، للإفصاح، للرضا والاعتراض، للتهديم والبناء، وكلّ ما من شأنه أن يُعيد تكوين العالم حسب رؤيته عبر الشِّعر. إنّه يواجه كلّ ما يواجهه بهذه القصائد، على طولها وقصرها واختلافها، فهو شاعرٌ ينطلق من شعرهِ راغبًا بتحرير العالم، حالمًا بعالمٍ يُفصِّله هو على مقاس إنسانيَّته وآماله الكبيرة. وتفاصيل هذا العالم معروفة للذي سيقرأ قصائده:
"لَمْ يَعد لديَّ وقتٌ للصًّبر
أترك الحكمةَ لشُعراء الواقعيّة
لرسّامي الحلول الوسطى
لموسيقى الرّصانة
إنّي أستعجل نهايةً حقّة
وبدايةً حقّة
وإعادة تَشكيل الكون
حيث تكونُ آلاف الكواكبِ معمورةً كما كان كوكبنا
وحيث تُتاح حرّية العيش في مَجرّة نختارها
إني أستعجلُ مُستقبلًا واضحًا لا غُبارَ عليه
يَبتكرُ استثنائيًا من الألف إلى الياء ماضيه الخاص
جليٌّ إذًا أنّه لم يعد لديّ وقت للصبر".
إنه عالم الشاعر الذي لن يخلو من حُبٍ وعدالةٍ اجتماعيّةٍ وكرامةٍ إنسانيَّةٍ وصدقٍ، وكلَّ ما يمكن أن يتمناه الإنسان ولا يجده مُتاحًا للجميع في هذا العالم. وبالتالي، يصبح الشِّعر هنا رسالةً عظمى، فحواها الإنسان لا غيره. في "الأَمَلُ عُنوَةً"، نجد قصيدةً مُفكِّرةً، قلقةً ومشغولةً بتساؤلاتٍ كثيرة، تساؤلات الحاضر والمستقبل، الأهداف والمصير والنّهاية. إنَّها مُحَمَّلة بالكثير ممّا يشغل الفَرد الحسّاس في عالمٍ مليءٍ بما يَستفزُّ هذه الحَساسيَّة ويؤجّجها. القصيدة عند اللَّعبي ضرورةٌ لقولِ ما لا يُقال إلّا بالشِّعر:
"أشهد أن لا إنسان
إلّا الذي يخفق قلبُه حُبًّا
لكلِّ إخوته في الإنسانيّة...
أشهدُ أن لا إنسان
إلّا مَن يُحارب الكره بِلا هَوادة
في دواخله وحواليه
الذي ما إنْ يفتح عَينيه في الصباح
حتى يسأل:
ماذا عليَّ أن أفعل اليوم
كي لا أفقد صفتي
واعتزازي
كإنسان؟".
فأجواء القصيدة إنسانيّة، نابعة من ذاتٍ إنسانية كبيرة، همومها وغاياتها إنسانيّة بحتة، يقدّمها على كلّ معتقدات الفرد وأفكاره ومقدّساته. كأنه بها يخاطب البشرية بأن عليها أن تؤمن بالإنسانية كي تستمر في معيشها وتُقيم دولتها الإنسانية الحقّة؛ شهادة الشاعر من أجل الكرامة، ومن أجل ألا يفقد الإنسان ما يجعله إنساناً.
تبدو طَريقة اللَّعبي في القول الشِّعري واضحة، ويستشعرها القارئ في قِراءته الأولى بسيطةً، يرفعُ إصبعه ويضعهُ على المكان الذي يُريد، لا تمويه ولا أقنعة، إنَّه أمام الكثير من القضايا التي لا تَحتَمِل التعقيد، لا يحتمل أسلوبه ذلك، ولا يُحمِّله عنوةً ما لا يستحق من أثقال الأساليب التي تُرهق القصيدة وتستنزفها وتُشتِّت أهدافها. لهذا جاءت قصائده كَرشفةِ ماءٍ سريعة، تَروي، ولكنها لا تُشبع، لأنَّ الذي سيقرأها سيطلب المزيد منها. وهذه القراءة، بالنتيجة، ستُحيلُ إلى قراءةِ باقي شِعرهِ الذي لم يُقرأ، وإلى السفر أبعد وأعمق في عوالِم صاحب "يوميات قلعة المنفى" (1983) وأجوائها الخاصة، وفي لغته المُحمَّلة بالأفكار والإشارات:
"ماذا سيحدث لفيلمنا الكبير
الذي نمثّل فيه جميعًا أدوارًا منذ البدايات
لكتابنا الكبير الذي ما انفككنا نكتبه
بمليارات الأيدي؟"
لا يكاد ينتهي قلق الشاعر في قصيدة حتى نَجِدهُ في أُخرى، إنّه قلق الوجود وما يستتبعهُ من تفكيرٍ بما سَيَؤول إليهِ العالم الذي يَتغيَّر باستمرار، هذا التَغيير الذي من شَأنهِ أن يُدمِّرَ أو يُعمّر. ولعلَّ أكثر ما يُقلِقُ الشاعرَ هو المستقبل، مستقبل الإنسان والكوكب والشِّعر، وكلّ ما له صلة بوجوده. وهذا القلق بطبيعة الحال له جذروه، له ما يسوّغه، إنَّه الماضي، التجارب السيئة للطغيان وآثاره على سَيرِ الحياة على هذه الأرض، الاستعباد والسجون والحروب والموت، ما من شأنهِ أن يُقيِّد حُرّيةَ الإنسان وحركته الطبيعيّة. وكما يقول في كتاب "حرقة الأسئلة" (1986): "إن مشروع الإبداع يحتاج إلى الحرّية حاجة النباتات إلى الشمس والماء".
مثل هذا القلق الإنساني نجده في قصيدته "ألفان ومائة"، ففيها يتساءل عن المستقبل ومآل الكوكب والإنسانية المبتلاة بالحروب:
"بعدَ سبعينَ أو ثمانينَ سنةً
ماذا سيكون مآلُ كوكبنا ومآلُ إنسانيَّتِنا
هل ستقعُ خاتمة الحروب،
أم سينبلج عصرٌ ذهبيٌ جديد..."
ويوجهها إلى حفيديه اللذين سيتساءل عن مستقبلهما كذلك:
"ماذا سيأكلون
أيّ شيء سيُضحكهم أو يبكيهم
من منهم سيصيرُ قِدّيسًا ومَن سيصبحُ وغدًا
هل الشِّعر سيستمر في الوجود
وهل سيحافظُ على بعضِ الجدوى لكي يُغري أحدًا منهم
ليحملَ من بَعيد مِشعَلَ سَلفهِ الوَحيد
من منهم عندما يكون في مثل سنّي اليوم
سيحضنُ أحفاده بنظرةٍ حنون
ويشرع في طرح الأسئلة؟
أي نوع من الأسئلة يا ترى؟".
فضاء استكشاف ومغامرة لايزال به مجال للمشاطرة والتقاسم
إنه يعيد إلى ذهنه في ختام القصيدة ربما تلك الأسئلة التي تراوده، والتي دائمًا ما يكررها؛ أسئلة الوجود والحياة والغايات والــ منذ متى؟ ولماذا؟
قد لا تكفي قراءة ديوانٍ واحدٍ للإحاطةِ بتجربةِ اللّعبي بتمامها، إنَّه شاعر متجدّد وحسّاس، له منطقته الخاصّة التي يستدعي الدخول إليها، والاستمتاع بها، التحلّي بمعرفة شعريّة عالية، لتذوّق ما يَكتبه والنفاذ إلى جوهر الشِّعر وغايته. وبما أنَّ الشِّعر هو الحياة، وحياة الشّاعر هي شعره، فلا بدَّ أن أثر ما يَكتبه سيكون واضحًا على مَن يتلمَّسه ويقرأه، على المستوى الفني للكتابة، وعلى المستوى الشِّعريّ في ما يَشعر به، وعلى المستوى الإنساني في ما يُحمِّل قصيدته ويؤثِّثها.
ولأنَّ فعل الكتابة مسؤولية، فهنا يعدّه الشاعر إبراءً لذمَّته، وأنَّه قال ما يجب أن يقوله:
"الحقيقة؟
ما كنتُ أودُّ قوله
أظنُّ أنّي أجزَلْتُ فيه القول
ولَئنْ ظللتُ متمسِّكًا لِمامًا
بالكتابة
فذلك إبراءً لذمَّتي
لوضعِ "اللّمسات الأخيرة"
وفق الحِرفيّ الأمين".
كتب اللَّعبي ديوانه هذا بالفرنسيّة، لكنَّ قراءته توحي بدرجة ما بأنَّه مكتوبٌ بالعربيَّة. ربما هي روح الشاعر العربيّة تسري في قصائده حتى وإنْ كُتبت بلغةٍ أُخرى. هذا هو الأمر على الأرجح. لكن ما ساعد على تجلّي هذه الروح في لغتها الأصيلة، هي قدرة المترجم محمد خماسي على ذلك، ومهما بلغت التَّرجمة من حساسيّةٍ وصعوبة، تحديدًا في ما يَخصُّ الشِّعر الذي قد لا تكتمل عملية نقله بكامل روحيَّته إلى اللغة الأُخرى، إلّا إنَّ قصائد عبد اللطيف اللَّعبي استطاعت تجاوز ذلك، ووصلت إلى مأمن اللغة الكامنة في أعماق القارئ.
سيرة
لن نقول إننا لم نعد بحاجة لتعريف اللطيف اللَّعبي. فالتعريف به هو أيضاً تعريفٌ بالمغرب طيلة عقود، وبمَن غادروه مضطرّين. وهو تعريفٌ أيضاً بجزءٍ أساسيّ من الشعر العربي المكتوب بالفرنسية.
وُلد اللَّعبي في فاس عام 1942؛ عاش ودرس فيها حتى الثانوية، ثم انتقل إلى الرباط حيث درس الفرنسية وأدبها ودرّسهما. أطلق عام 1966، مع أصدقاء له، مجلّة "أنفاس"، وبعدها بعامين "جمعية البحث الثقافي" مع الناشط أبراهام السرفاتي. اشتغل أيضاً في النشر. وفي عام 1972، سُجن بسبب انتمائه السياسي اليساري ونشاطه الثقافي، ولم يخرج من السجن إلّا في 1980، بعد حملة دولية قادتها بالأساس زوجته جوسلين اللَّعبي. انتقل بعد خمس سنوات إلى فرنسا، حيث يُقيم اليوم.
بعكس كثير من أبناء زمنه، بدأ اللَّعبي مع الرواية ("العين والليل"، 1969) قبل أن ينشر في الشعر نحو عشرين مجموعةً تخلّلتها خمس روايات أُخرى ومجموعة من النصوص المسرحية وكتب اليوميات والمقالات، والكتب الفنّية، إلى جانب ترجمات عديدة في الشعر بين العربية والفرنسية، مثل "أنطولوجيا الشعر الفلسطيني الراهن"، و"وردٌ أقلّ" لمحمود درويش، و"الفرح ليس مهنتي" لمحمد الماغوط وأعمال عديدة غيرها.
من دواوينه الشعرية: "عهد البربرية" (1980)، و"الشمس تموت" (1992)، و"الخريف الموعود" (2003)، و"مبدأ الريبة" (2016)، و"الشعر لا يُهزَم"، و"لا شيء تقريباً" اللذان نُقلا حديثاً إلى العربية (دار الرافدين).
* شاعر من العراق