اكتئاب

07 ديسمبر 2022
جزء من "بعد المطر في لبنان" لمحمود سعيد (مصر)
+ الخط -

كانت تجلس قرب النافذة. المطر الخفيف يلتصق بالزجاج. بالخارج بضعة أشخاص يُسرعون الخطو. يُغطّون رؤوسهم بالمطريّات. نظراتها لا تحبسها جدران الغرفة ولا تقع على شيء ما هناك، حيث الحياة في الشارع الملسوع بالبرد. جذَبتْ نَفَساً من سيجارتها البيضاء الطويلة، وكأنها تجذب نَفَساً من أنفاس الحياة. كان في حركتها تلك شيءٌ مِن الهوس اليائس الذي لا يلبث أن يستسلم بعد لحظات مِن بلوغ نشوة التشبُّع بالنيكوتين.

لم تكن لديها رغبة في القيام ولا في نزع بيجامتها. استيقظت منذ ساعتين، متأخّرة كالعادة. تسهر طويلاً ليلاً وتستيقظ بصعوبة صباحاً. لم تفطر بعد. السيجارة هي أول تواصل لها مع روتين اليوم الرمادي.

بدا لها اليومُ مُعلِناً عن مللٍ مُكرَّر بمذاقات الأمس. شعَرتْ بالإرهاق بعد ساعتين من الجلوس أمام النافذة المُطلّة على الشارع. لا جديد في هذا اليوم الخريفي الذي لا يحمل هوية خاصّة غير قرصات البرد والغيوم الرمادية الملتفّة بالسواد، المتراكمة في ردهات السماء الغاضبة.

هل حقّاً اليومُ الجديد فاتحة للحياة؟ موعدٌ جديد معها ومع الفرص الممكنة؟ أم أنّ اليومَ هو ذلك الجُرف الشاهق الذي علينا تسلّقه كلّ لحظة كي نصل إلى مكان ما قريب من القمّة؟ ربما اليوم هو المنحدَر الجبلي الناتئ الذي يدّخر لنا الشوك والحجارة في كلّ خطوة نخطوها نحو الأسفل؟

دقّت الساعة الثانية عشرة. الموعد المثالي لبدء تناول وجبة الغداء في العائلات المثالية، حيث تستيقظ الوالدة باكراً، مع زقزقة العصافير المُبكّرة، كي تُحضِّر الفطور لأطفالها. توقظهم، تُقدِّم لهم الأكل اللذيذ، تُساعدهم في لبسهم وإعداد مَحافظهم المدرسية، ثم تُقبِّلهم وهم يغادرون البيت نحو مدارسهم. حينها تدخل المطبخ من جديد لإعداد الغداء وهي تغنّي أغاني الصباح البهيجة.

روائح طعام شهيّ تسلَّلت إليها عندما فتحَتْ دفّتَي النافذة للحظات ثم أغلقتهما. روائح الكِسرة الناضجة للتوّ على الطاجين الطينيّ وطنجرة الفاصولياء البيضاء بلحم العِجل. تخيّلتِ الحركةَ المفعمة بالنشاط الدائرة في منزل الجارة، وجرْيَ الأطفال وعراكهم المُحبّب حول طاولة الطعام.

كانت تنقصها الرغبة في فعل شيء ما. بل لم تكن لديها أيّة رغبة إطلاقاً. لم يعد الأمر يدهشها، فالفتور يسبق كلّ أفكارها. وكلّ حركة تفكّر فيها تُحاصرها مشاعر الألم والحزن والعجز. كانت تشعر أن بينها وبين جيرانها هوّةً سحيقة سوداء، وليس حائطاً يفصل بين الشقتَيْن. "كم أنا بعيدة عنهمǃ".

الواحدة بعد الزوال. لم تغادر بعدُ مكانَ الحراسة خلف النافذة. الكرة الأرضية تدور. هي لم تتحرّك بعد. يداها مثقلتان. صدرها منقبض. غيوم سوداء نفَذتْ إلى سماء رأسها لتستقرّ في قبّتها. كانت تودّ أن تنهض، على الأقل لِتفطر أو لتُحضّر وجبة الغداء. كانت تَعِد نفسها بأنها ستفعل ذلك وهي تنظر إلى الشارع الذي تظهر فيه من وقت إلى آخر وجوهٌ وأجساد تتحرّك. وتمرّ الدقائق وتموت السجائر بين أصابعها ويمضي إلى الخلف مجروراً بعقارب الساعة طبقُ الغداء، فتسأل نفسها: "ماذا أُحضِّر للعشاء؟".


* كاتبة من الجزائر

نصوص
التحديثات الحية
المساهمون