قالت مسز كارجيل في مسرحية "السياسي العجوز" لـ ت. س. إليوت تخاطب اللورد كلافرتون: "يندرُ أن أسمع الناس يتحدّثون عن ضمائرهم إلّا ليقولوا إنها مرتاحة". هذا ما يقوله القاتل، والمحرّض، والسياسي الذي يأمر بالقتل أو بالإبادة، والقاضي الذي يحكم بالإعدام، والمحامي الذي يدافع أحياناً عن الباطل، والبريء بالطبع. وهذا القول يناقض تماماً ما يقوله بول ستروم في كتابه "الضمير" من أنه يكون مزعجاً في الغالب، فعادةً ما يشعر المرء الذي يتحرَّك ضميره، ويوبّخه إذا ما ارتكب ذنباً، أو أشدَّ من الذنب أنّه كان أفضل حالاً من دونه. لأن من عاداته، أي من عادات الضمير، النخز والوخز والاستنكار والمضايقة.
ومع ذلك فإن ستروم يؤكّد "إن أحوالنا في وجود الضمير، أفضل منها كثيراً عنها في غيابه" وفي كلّ حال فإن من الصعب أن تختلف معه هنا، علماً أنها مسألةٌ نظرية محض، فعالم البشر حافلٌ بمحاولاتهم للتملّص من رقابة الضمير.
شعوب عانت من غياب ضمير "حماة الضمير" في المرحلة الاستعمارية
ويمكنُنا أن نعتب على السيد بول ستروم لأنه يدّعي، وهو متأكّد من ادّعائه، أنّ أصول الضمير أوروبية، أو هي مستمدّة من الأوروبيين، "كما أنهم لا يزالون رعاته إلى حدّ ما" أي أن الضمير موضوعٌ في حماية أوروبا. يمكن قبول هذا التنظير في حال اعتمدنا مسائل فلسفة الضمير، إذ قلّما عُنيت الفلسفة العربية بهذا الموضوع، علماً أن هذه الكلمة قد تكون من أكثر الكلمات شيوعاً على ألسنة الناس في بلداننا، الذين يتساءلون عن غيابه عن المجتمع، وخاصة في ظلّ انتشار الجريمة والنهب وغياب الأمن. أما غير ذلك فهو يضع ثلاثة أرباع البشر خارج نطاق حزام أمان الضمير. بل إنه يتجاهل مصير عشرات الشعوب التي عانت من غياب ضمير "حماة الضمير" في المرحلة الاستعمارية.
وفي قوانين كثير من الدول تتساوى حرية الضمير بحرية المعتقد. ومن فضائل العلمانية، في البلدان ذات الأنظمة الديمقراطية، أنها تنص على هذه الحرية في دساتيرها، وتحميها بالقوانين، بينما قلّما تحفل الدول التي حُكمت بالفكر الشمولي أو الديني بها، ومن النادر أن تعثر في قوانين البلاد التي حُكمت بأنظمة شمولية، مثل النازية والفاشية والشيوعية أيضاً، على حماية حقيقية لحرّية الضمير. وربّما تميل تلك الأنظمة إلى اعتبارها خروجاً ومخالفةً، بل إنّ هذه البلدان شهدت ما يُشبه المجازر للمخالفين في الرأي والعقيدة أو الضمير.
ومعظم الناس يستخدمون الضمير بوصفه المثال، أو النموذج، أو المقياس الأخلاقي، فمن هو بلا ضمير، أو معدوم الضمير، يعني أنه في أدنى درجة من القِيم الأخلاقية. وهي هنا حقلٌ للصراع على الأهلية والأصل، فالمتديّنون يدّعون أنه مقرَّر سماوي، والعلمانيون يؤكّدون أنه ثمرة عقلك وتفكيرك وموقفك أنت. وقوّة العقل هنا هي أنه يعمل بالقناعات، لا بالخِشية والخوف من العقاب. لكنّ التجربة العَملية تثبت أن الناس ينقسمون في انتمائهم إلى قضية الضمير بين فريقين: إمّا مع فريق مسز كارجيل، حيث يُعلِن الضمير راحته التامّة غير آبهٍ بما فعل صاحبه، أو فريق السيد ستروم الذي يسمح للضمير بالوخز والنخز والاستنكار.
* روائي من سوريّة