أنطونيو غامونيدا.. قصائد من السجن الشَّفيف

21 يونيو 2021
أنطونيو غامونيدا خلال تقديم أحد كتبه في مدريد، 2006 (Getty)
+ الخط -

قبل أيام، احتفل الشاعر الإسباني أنطونيو غامونيدا بميلاده التسعين. لم يكن صاحب "وصف الأكذوبة"، الحائز عام 2006 "جائزة ثرفانتس" و"جائزة الملكة صوفيا للشعر الإيبرو ـ أميركي"، وحيداً في هذه المناسبة. فقد نظّمت مؤسّسة صديقه الشاعر والكاتب الراحل أنطونيو بيريرا، في مدينة ليون الإسبانية، أمسيةً للاحتفاء به في ذكرى ميلاده هذه، التي حضرها اثنا عشر شاعراً وكاتباً من أصدقاء غامونيدا، في ظلّ إجراءات الوقاية من فيروس كورونا. وقد شهدت الأمسية إصدار مختارات شعرية من أعماله في طبعة خاصة محدودة (90 نسخة)، ضمّت 12 قصيدةً، وحملت عنوان "أحببتُ" ــ وهو عنوانٌ مقتطَف من مستهلّ قصيدة له.

في العام الماضي، أصدر غامونيدا الجزء الثاني من مذكّراته، وقد منحه عنواناً معبّراً: "الفقر". لا تُحيل الكلِمة مجازياً، فحسب، إلى مرحلة ديكتاتورية فرانكو التي عانى منها الشاعر في طفولته وشبابه، بل كذلك إلى حياته، ولا سيّما بداياته، التي عرف فيها ظروفاً صعبة، هو الذي اضطُرّ إلى العمل مبكّراً، في الرابعة عشرة من العمر، في أحد البنوك من أجل دعم أسرتِه، وهو الذي لم يدخل المدرسة إلّا في وقت متأخّر.

وُلد أنطونيو غامونيدا عام 1931. رحل والدُه بعد أقلّ من ثلاثة أعوام من ولادته، ووجد نفسه في عناية أمٍّ لن يكفّ عن تسميتها بأنها حضنه وملجأه في مواجهة صعوبات العيش وتضييق السلطات بسبب مواقفه المناهضة للديكتاتورية. خلال الأمسية التي أقامتها "مؤسسة أنطونيو بيريرا"، وصف الشاعر الإسباني خوان كارلوس ميستري صديقَه غامونيدا بالقول: "ليس (غامونيدا) مجرّد صوت أساسي في الشعرية المعاصرة، بل هو، بلا أدنى شك، أهمّ شاعر حيّ في اللغة القشتالية، وأيضاً مرجع أخلاقي مارس الجاذبية الأساسية للفكر النقدي في عصرنا". أضاف: "في أعماله يشكّل الأخلاقي والجمالي قدرةً إبداعية مذهلة، حافظ عليها طوال حياته. يجب قول ذلك صراحةً: أستاذيّته في الشعر أضاءت الطريق لأجيال بكاملها من الشعراء. وبطريقة ما، صار معها رمزاً للمقاومة الفكرية لتفاهة خطابات الرداءة".

حافظ طوال مسيرته على الأخلاقي والجمالي في أعماله 

إضافة إلى نحو 50 كتاباً في الترجمة والسرد والمقالة والتعليق الفني على أعمال تشكيليين، أصدر غامونيدا ما يزيد على 15 مجموعةً شعرية طيلة مسيرته، وقد جُمعت هذه الأعمال الشعرية في مجلّدين حملا عنوان "هذا الضوء"، الذي صدر جزؤه الثاني عام 2019، وشمل ــ إضافة إلى مجموعة أصدرها عام 1995 ــ المجموعات التي أصدرها بين 2005 و2019، ومنها "السجنُ الشفيف"، التي نقدّم هنا ترجمةً لمقطعٍ منها.
 

السّجنُ الشفيف

أنا متعَبٌ.
متعبٌ من ذاتي، من عدائي لذاتي،
أو مِنَ الحياة، أو من اللا ـ
حياةِ، لستُ
أدري.

اليومَ،
هذا الصباح،
تأمّلتُ ما تبقّى مني:
بالكاد
وعْيٌ مُجهَدٌ
وبعضُ الأمتعة 
الجسدية غير النافعة،
اليوم،
في وقتٍ متأخّر قليلاً، وأنا أرى،
ولا أتعرفُ
على وجهي في المرآة: عيناي الثابتتان،
جلدي المتأكسدُ والعاصفة
الملتبسة
لخصلات شعري،
قد
تلفّظتُ
بمقطعٍ واحدٍ: لا؛
مقطعٌ واحدٌ.

وماذا عَنِّي؟ 
أأنا كلمةٌ من مقطعٍ واحدٍ، نفيٌ
فقط؟
لستُ 
أدري.

أتساءلُ إن كان في هذه اللحظة لا شيءَ مؤكّداً أو غيرُ مؤكَّدٍ
أو على الأقلّ
في هذه اللحظة،
من الممكن التظاهرُ
حدَّ التصديق.
لستُ
أدري.
بالكادِ
يمكنُ
النسيانُ.
وأنا،
الآن، هنا، في هذه اللحظة،
مَن أنا، هل أنا
بالتأكيد
في ذاتي؟
لستُ
أدري. استرحْ.
ها
أنتبهُ:
الفكرُ
غيرُ مُجْدٍ.
أجل،
من جهةٍ أخرى،
في الكينونة أو في اللاكينونة،
أنا،
احتمالاً،
أنفي وأؤكّدُ.

مِنْ قبلُ.
بلا يقينٍ، بلا حاجةٍ، واحتمالاً، لكي أتيهَ،
ولكي أتجاهلَ.
ألِذلكَ
غيرُ مهمٍّ وغيرُ مُبالٍ
التوكيدُ والنفيُ والسؤالُ، أريدُ أن أقولَ
التفكيرُ؟
لستُ
أدري.
إلى هُنا، تيهي الأوّلُ. ومِنَ الآن فصاعداً،
سأقولُ ولا أقولُ عن ظروفي، وعن عزلتي
في ذاتي.

قد
هيَّأتُ لهذه الغاية بعض
الخرافاتِ،
فلا تكنْ
ثمَّة غرابةٌ.
ليسَ
ممكناً القولُ بصددِ العزلة وأشياء أخرى تحدثُ
مع الحقيقة،
لكنّ الحقيقة تستحقُّ
تيهاً على حِدَةٍ.
فلنفكّرْ،
بصدد حقيقةٍ، إن كانتْ توجدُ، بصددِ حدٍّ أدنى
ضئيلٍ من الحقيقة، بالفعلِ ليسَ ثمَّة ما يُمكنُ أن يُقالَ، الحقيقةُ
تتجاوزُ الكلماتِ.
وفي حالات محدَّدةٍ،
الحقيقة تتجاوزُ ذاتَها.
وإذن، فالخرافةُ
لا مفَرَّ منها.

ألفتُ النظرَ إلى أني سأُعمِلُ الخيالَ بسببِ الغيابِ المبدئيِّ
للواقعِ وأيضاً
بسبب التناقضِ واللاملاءمة ــ مبرِّري الأعزّ،
وبسببِ عرضي للهذيانِ، قائد البراءة
والتبصُّرِ،
كلاهما طبيعيٌّ وعلى التوالي
فارغٌ.

من جهةٍ أخرى،
مزدرياً الجوهرَ المدنيَّ، لا شيءَ سأقولُهُ
عنِ الرِّدَّاتِ الاقتصاديَّة، ولا عن أعياد العِماد
الديمقراطية بينَ بين، ولا عن الشفقةِ المرتهنةِ
ولا أيضاً عن شرذِماتٍ أسقفية
شبه منقرضةٍ،
ولا
لماذا قلتُ ذلك
عن وزاراتٍ مُزيَّنةٍ بأسماطٍ انتحاريةٍ.
سأقولُ
تقريباً عنِّي وعن ظروفي
اللامحتملة،
هكذا،
وأنا ألجُ أخيراً الأحشاءَ الخرافية أقول:
خلال وقتٍ طويلٍ،
بقيتُ شارداً، ربما
شارداً على نحوٍ مُميتٍ،
نافياً ومؤكِّداً ومُتسائلاً، إلخ.
هي
العادةُ، لستُ أدري لماذا، لكنِّي أفعلُ ذلك، الآن لكي
أفعلَ شيئاً دون أن أفعلهُ حقاً،
أطرحُ على نفسي
سؤالاً:
أيجِبُ
عليَّ أن أحُلَّ في نفسي، لستُ أدري، أيَّ شيءٍ،
تهتُّكاً،
دواراً، اختياراتي الجنائزيَّة، جواهري الجامحة
النشاطَ الليليّ لأظافري الشخصية في جراحي
الذاتية الماجنة؟
لستُ
أدري. لا شيء من هذا 
له أهميَّة، أو 
ليس ثمَّة
شيءٌ يستوجبُ الحلَّ.
ومع ذلك
ثمَّة حلٌّ،
أجل،
ثمَّة حلٌّ كونيٌّ، لكن مع ذلك، ثمَّة أيضاً
وبالفعل، ثمَّة في ذاتي،
في قياسٍ عديم التبصُّرِ (مع الحقيقة يُفهَمُ)، فكرٌ
يتجاوز حالات النفي والتوكيد، يتجاوز ضمنياً
صدق المرايا.
سوفَ
أقولُ ذلك:
أنا
أحبُّ.
لا
يمكنُ أن يكونَ ذلك. سوفَ يكونُ
نفياً للاستحالةِ.
أجل،
أعرفُ ذلك، لكني
أنا
أحبُّ.
لا
أفهمُ ذلك ولا 
أحتاجُ 
أن أفهمه:
يحدثُ
بشكلٍ أرعنَ.
سأقول ذلك حتى تشتعل الرعونة، الرعونة
العزيزة.
ومن جهة أخرى،
حقيقة أني أحبُّ، وإن كانت الحقيقة، وهذا معروفٌ،
تذوبُ في إفراطها،
لكن
فوق الحقيقة والاستحالةِ وتحتَهما،
أنا
أحبُّ.
فلتمضِ الحقيقة والاستحالة إذن إلى الجحيم.
لكن، في نهاية المطافِ وعلى العكس من ذلك، للقيام بشيء ما،
للقيام بشيء ما دون القيام به،
للقيام به دونما جدوى، للقيام بشيء ما،
أتساءلُ:
أيُحِبُّني شخصٌ ما لذاتي،
في كينونتي المنيعة أنا فقط،
وفيَّ أنا؟
لستُ
أدري،
لستُ
أملكُ كلماتٍ.
أكلماتٌ؟
لأجل ماذا؟
لا
تعني شيئاً، تتصنَّعُ
المعاني.
عِلمُ دلالةٍ
خالصٌ.
من جهةٍ أخرى،
ها قد صعدْتُ وأكادُ الآنَ أبلغُ قمَّةَ
البراءةِ (أو قمَّة 
البلاهة أو المعرفةِ)
وهكذا
محظوظاً أنتبهُ إلى أنَّهُ، فعلاً، ليسَ ثمَّة معانٍ،
وأنَّ كلَّ الاشتقاقاتِ
فارغة،
وأستريحُ، أحياناً
أستريحُ، يُقالُ
إنَّ ثمَّة شيءٌ أيضاً، علاماتُ
براءةٍ (أو حكمة، من يدري) في الصَّمتِ،
لأجل القضيَّةِ الثانيةِ
من الحقيقة قد تكون، لكن بالنسبةِ إليّ،
على العموم، بالنسبة إليّ الحقيقة تجذبني
دونما عنايةٍ.
حقّاً
حتى لا نفعلَ، وحتى نرتابَ، وحتى أتيهَ
أريدُ أن أقولَ،
حتى أتجاهلَ ذاتي،
قررتُ
أن أسألَ، أن أنفيَ، أن أؤكِّدَ، إلخ،
لكن
لنفكِّرْ،
أجل،
حسناً، أجل، لنفكّرْ، لكن من خلال أسبابٍ متطابقةٍ
باطلةٍ، لنتحدَّثْ أيضاً، لنتحدَّثْ
عن الحياة، أريدُ أن أقولَ
فلنكفَّ عن الحديث،
أو لنتحدَّثْ عن شؤونٍ مُستحيلةٍ،
وطبعاً، بالنتيجة
لنتحدَّثْ أيضاً وبالطبع
عن الحبِّ.

وأنتِ أيتها القُبَّرَةُ
أتسمعينَني؟
أنا
لا أفهمُ ذلك لكني
وبشكلٍ غير مفهومٍ
أحبُّكِ.
وأنتِ،
أنتِ نفسُكِ في ذاتك،
أنتِ
التي أيضاً لا تفهمين لكنّك تعرفين،
وإذ تعرفين أنكِ وحيدةٌ مع ذاتك وأن فكركِ
ليس فكري،
أنتِ
هل تحبِّينني؟
هل تحبينني
في ذاتي؟
لا
تجيبيني.
هكذا،
مستغرقاً فيْ ــ لستُ أدري، ربما
مستغرقاً في ذاتي، مُبَنّجاً
ببراءتي الخاصَّةِ (أو بمعرفتي الخاصَّةِ، لستُ أدري)
أبلغُ
مؤقتاً أبلغُ
ألَّا أعرفَ، رغم أني أستشعرُ (من خلال ذاتي المُبَنَّجَةِ)،
أستشعرُ
أنَّ في هذا الظرفِ ليسَ ثمَّة ظرفٌ، ليس ثمَّة شيءٌ 
قابلٌ للفعلِ.
لذلك
قطعاً دونما قضيَّةٍ ودون أن أرغبَ في ذلك،
أستغني فقط، أستغني
عن إنكاراتي، عن تأكيداتي، عن أسئلتي، أستغني، 
ونسبياً مُتأمّلاً
أفكِّرُ،
أنا،
عادةً أفكِّرُ في أيِّ شيءٍ، أفكِّرُ كحدٍّ أدنى،
أفكِّرُ مثلاً في النحلِ مُجتمِعاً حول الملكةِ المُخصِبَةِ
وعلى اليعاسيبِ المحتضرة، أفكِّرُ في حشدها المُجتمِعِ 
في الكينونة ذاتِها.
لكن اليوم لا،
اليوم
يومٌ معكوسٌ، عيدُ ميلادٍ لا يعدُّ ولا يُحصى لشيخوختي، ومسَمَّماً بالكحولِ
من قبلِ أشباحي ذاتِها، ومعتلّاً بوهم المرض، أفكّرُ في ذاتي، أفكّرُ 
في التناقض، يا أمّاه، أفكّرُ بغموضٍ وبغضبٍ في الظلّ الشريانيِّ،
في تسرطن الظلِّ الشريانيِّ الداخليِّ في حُمامِيَ الدَّمويِّ.
أفكّرُ وبالكادِ أصلُ إلى أن أعرفَ بغموضٍ وبغضبٍ
في حالة ما إذا عشتُ، فسوفَ أعيشُ 
حياةً
منحرفةً.