تكلّمنا عن الطور الأوّل لقصيدة النثر العربية، فماذا عن الطور الثاني؟ يبدو أنّ شعر الطور الأوّل تدرّج إلى أن غدا ما صار الآن عليه. تدرّج أوّلاً إلى الشكّ بتأسيسيّته، وبالتالي إلى الشكّ باستبداليّته باللغة، واستبداليّته للنصّ بكُلّيته. أي أنّه لم يُطق هذه المزاوجة بين الشعر والدين والدعوة. هذه المزاوجة التي كانت وتبقى في أساس تمَاميّة النص الشعري وتماهيه مع النظر في اللغة والشعر.
لم يُطق الشعر في طوره الثاني أن يكون هكذا ديناً أو شبه دين. لم يُطق أن يكون الشعر كلّه، واللغة كلّها، والحقّ كلّه. لم يقبل لذلك أن يكون له هذا الشمول وتلك الإحاطة وذلك الاستبدال. لقد سعى إلى أن لا يكون، في كلّ قصيدة الشعر كلّه، أو بياناً عن الشعر أو بياناً بالمُطلق. تدرّج هذا الشعر إلى أن وجد محلّ الشعر الشامل في قصيدة الطور الأول، وجد القصيدة. القصيدة التي هي حيّز في اللغة وفي الشعر نفسه. تدرّج هذا الشعر إلى أن وجد القصيدة. القصيدة التي لم يعدِ الشعر معها بياناً شاملاً، أو قدس أقداس اللغة، أو شبه دين، أو بياناً عاماً. القصيدة التي هي ذات حدود في اللغة، وفي الموضوع، وفي اللحظة، وفي المكان، وفي الغناء.
بالطبع كان هذا يعني نزول الشعر من سقف الهداية وسقف الخطابة وسقف الدعوة. يعني أن يكون الشعر وتكون القصيدة في نفس الوقت فرعاً من الشعر وحيزاً فيه، بل يعني أن لا تكون القصيدة نظرية في الشعر، مديحاً له ودعوة إليه. كما يعني أنّ الشعر نفسه ليس معطى ثابتاً، كما أنّه بلا تعريف نهائي وبلا نموذج، وأنّ هذا النموذج لا يوجد لمجرد الإيمان به وتنصيبه بديلاً عن الحق. الشعر هكذا ليس للإيمان وليس لليقين، وليس ليوجد بمجرد الغناء له أو التعزيم به. الشعر لا يزال دائماً للبحث، ولا يزال دائماً للاستدعاء، ولسنا حين نصنع قصيدة نفعل سوى هذا الاستدعاء وذلك البحث.
بناء قصيدة يعني تجريبَ الشعر دون اهتداءٍ إليه أو تملّك له
لسنا نعرف، لذلك، إلا أنّ الشعر بلا نموذج، وأنّه لا يزال أمامنا، ولا نزال نحاوله ولا نقبض عليه او نتملكه، فهو لا يزال حلماً للغة، ولا يزال أحد توجّساتها وهواجسها، لقد شِئناه ولا نزال نسعى له. صناعة القصيدة ليست إلّا على هذا الطريق، إنّها ضرب في المجهول الذي قد لا يتحقّق في نصّ، وقد لا يكون له في الأصل نصّ، وقد لا يكون ممارسة دائمة وبناء وهدماً دائمين.
النصّ التأسيسيّ الذي هو حلم شعرنا، قد لا يكون، في الأساس، فوق اللغة ولا قبلها. قد يكون محجوباً تماماً وغائباً، فكلّ النصوص التي نرسيها ثانويّة بالتأكيد، وما يفعله شعراء الطور الثاني هو القصيدة، وصناعة القصيدة التي هي حيّز من الشعر وليستِ الشعر كلّه، فليس هناك ما يُمكن أن يكون الشعر كلّه أو الشعر بإطلاق. بناء قصيدة لا يعني سوى تجريب الشعر بدون أن يتبع ذلك اهتداء إليه أو تملّك له. تعني القصيدة تخليص الشعر من طموحه التأسيسي وما قبل اللغوي. يعني لشعراء الطور الثاني إيجاد غناء، مجرد لحن، مجرد ومضة، موضوع فحسب، أو الإيعاز لما يُشبه أن يكون موضوعاً والمهمّ تسقّط حَيّز، حَيّز فقط.
يمكن أن نقول، لذلك، إنّ شعر الطور الثاني، في بحثه عن قصيدة، ليس ادّعاءً أو افتراضاً للغة، ليس بديلاً عن اللغة، وليس اللغة في أصليّتها، أو نموذجها القَبْلي، رغم أنّ هذا قد يكون مدار الشعر ومدار الشاعر. إلّا أنّ الشاعر، هنا، لا يستخرج الشعر من تهويم اللغة، كما افترض شعراء في الطور الأول بدون أن يفعلوا سوى إيجاد فصاحة مُواجِهة. بين الشاعر واللغة، هنا، ما ليس معركة عاصفة كما نظّر شعراء الطور الأول. يعني ذلك أنّ ادّعاء الشاعر أنّ الشعر بوجه عام، وما تتأتّى وما تسفر عنه هذه المعركة. هذا الادّعاء ليس سوى تأليهٍ للشاعر، ووضعٍ له فوق اللغة أو في مقابلها. للشعراء بالطبع مواجهاتُهم مع اللغة، لكنّ القصيدة ليست نتيجة حادث كهذا. اللغة هي دائماً في الصراع مع نفسها، صراع قد يكون الشعر وغيره من طوابعه، لكنّ هذه المعركة هي تاريخ اللغة التي هي التاريخ نفسه، أمّا الشعر والشعراء فحادث فيه.
شعراء الطور الثاني لم يَعد همّهم ابتكار النصّ التأسيسي، أو خلق لغة فوق اللغة، وإن صدرت عنها أو تكوّنت من شظاياها. سيكون لذلك أثرٌ على لغات القصيدة نفسِها؛ سيكون ذلك خروجاً للقصيدة من اللغة كحادث فيها، خروجها منها في وقت ما، وفي موضع ما، ومن مخرج ما، ولحن ما. أي أنّ الشعر الذي تدرّجت إليه قصيدة الطور الثاني لم يَعد في أسطورة الصراع مع اللغة. أسطورة ولو أنّ ما يبدو صراعاً بين اللغة والشاعر، كما نظر إليه شعراء ونقّاد الطور الأوّل من قصيدة الشعر. هو في ذات الوقت تأليه للشاعر وتأليه للغة، وما تكلّم عنه هؤلاء من صراع ليس سوى الأسطورة. في هذه الأسطورة يواجه الشاعر بزمنيّته المحدودة اللغة التي تشمل التاريخ، ويندمج هكذا في غيبها. في ذلك يغدو موازياً للغة ويغدو، على نحو ما، بطلَها، وتكون القصيدة بذلك إعجازاً حقيقياً هكذا نعود مجدّداً إلى النصّ التأسيسي.
الشعر بلا نموذج وما يزال حلماً للغة، شِئناه ونسعى له
صدور الأعمال الشعرية لوديع سعادة يجعلنا نلتفت إليه، كمثل بارز على الطور الثاني من قصيدة النثر، مثله في ذلك مثل سركون بولص، وبسّام حجّار، وزكريّا محمّد، ومنذر المصري، وزاهر الغافري، وآخرين كثر. سعادة في شعره لا يحمل الذات البطولية التي تجعل الشاعر موازياً للغة والشعر، كما لا يحمل الذات النبوية الهادية أو المتوعّدة. وديع سعادة لا ينتمي إلى العموم الشعري الذي وَسم قصيدة الطور الأول. إنّه صاحب "قصيدة" لها جزئيّتُها وخصوصيّتُها، لها مساحتها وحضورها. القصيدة التي لم يَعدِ الشعر معها رسالةً وبياناً ووصيّة كاملة.
من هنا، تُمكِنُنا العودة إلى عمل يجعل من الشّعر لحظةً ولقاء خاصّاً، لا زمناً مطلقاً بلا تاريخ. اللغة هنا غير متألّهة وغير مفارِقة وغير شاملة. إنّها، في داخلها، حوارٌ له لحظته وله مقصودُه. وككلّ حوار، لا ينسى الآخر ولا يُلغيه، إنّه حاضر ولو خفيَة، حاضر في وقته وفي موعده وفي بنائه... الشعر هكذا كلام يتخلّق من مسارّة بين أكثر من واحد. الشاعر مسكون بهذا الكلام الذي يفيض عن نفسه، يفيض عنها ويقدّمها، بنت زمنها وبنت لقائها.
هذا ما ينزع عن الشعر أسطورته، بل ينزع عن اللغة تألُّهها وتعاليها. عبارة وديع سعادة لا تلغي الآخر، إنّها مهموسة به كما لو أنّها حكيٌ سائر، إنّها تحمل في رجعها موسيقى اللحظة، موسيقى المسارّة والحوار والاعتراف. هنا نقع على ما يمكن أن نسميه، "إنسانيّاً" في شعر وديع سعادة. إنسانيّاً، أي ما ينبو عن أن يكون تعليماً أو تعزيماً أو ترتيلاً، كما ينبو عن أن يكون خطابة. الإنسانيّ هذا لا يتعالى عن الآخر ولا يلغيه، ولا يتحوّل إلى ذات متوعّدة نافية، إلى إنكار عام. الإنساني هذا، لا يزال في لحظة هي في الآن نفسه، موعد ولقاء، هي في الآن نفسه، صداقة ومحبة. يمكننا هكذا أن نتكلّمَ عن قصيدة قادرة على أن تكون مواساة، على أن تكون في همسها، ولو الإنكاري، في سردها نفسه، غناء اللحظة.
* شاعر وروائي من لبنان