أصوات الصمت 6: الطائر المتنبّئ بما سيأتي من أحداث

11 مارس 2023
عمل للفنان الكويتي - الفلسطيني طارق الغصين (1962 - 2022)
+ الخط -

ننشر على حلقات رواية "أصوات الصمت"، للشاعر والروائي والناقد الراحل محمد الأسعد الذي غادر عالمنا في  أيلول/ سبتمبر 2021، وكان من طليعة كتّاب القِسم الثقافي في "العربي الجديد"، وأحد أبرز كتاب فلسطين والعالم العربي.


11

ربما أحتاجُ الآن إلى كأس نبيذ المتصوّف، أو إلى لفافة ميرسول اليدوية، أو سماع رنين أجراس خراف أبي عواد، أو عصافير سدرة البيت المعتمة حتى في عز الظهيرة. أحتاج كل هذا لموازنة ثقل غيابٍ أشعر به يضغط كلما تكاثرت المجمّعاتُ الهائلة في أي زاوية نظرتَ إليها، وأمعن النخيلُ الهندي في صعوده عند حديقة البلدية، وتدفقت قوافل وجوه بشرية آسيوية غير مألوفة تطغى على سواحل كلّ ما كان، وتتغلغل قادمةً من دوار الشيراتون إلى ساحة الصفاة التي لم تعد ساحة بل تجويفاً اسمنتيا غائراً مترامي الأطراف يعلوه نُصب حجري لشراع سفينة تتشعّب تحته الأنفاق، هناك حيث تتحرّك الوجوه بين حوانيت ألعاب على الجانبين، تتجمّع مثل عناقيد هنا أو هناك، أو تطلّ من وراء نوافذ المطاعم، أو تتحوّل إلى باعة ومشترين ومتنزّهين ومتلاصقين.

حين كنا هنا لم تكن حاضرة رشاقة الفلبينيات ببناطيل الجينز الضيقة هذه، ولا مظلّات الصينيات الملونة الصغيرة، بل كان الساري الهندي ووجوه درافيديات مدراس المصنوعة من القهوة، أو خشب الساج أو روث الأبقار المقدّسة. والآن يقول لي كلّ هذا ببساطة إننا لم نعد موجودين، ليس لأن هذه الوجوه السمراء والبيضاء والعيون المنحرفة لا تعرفنا فقط، بل لأنها تنظر ولا ترانا كأننا أشباح لا مرئية، أو لأننا تجوّفنا كما يبدو، إلى درجة أننا تحولنا إلى تجاويف في ماض بعيد لا يتعرّف عليه أحد.

تناقصتِ الدشاديشُ البيضاء أو اختفت بلا سبب واضح، ولم تعد تظهر إلا في أماكن بعيدة عن شارع الجهراء وشارع السالمية الآهل بشبان صغار، يرتدون قمصاناً ملونة وبناطيل ضيقة، كأنهم ممثلون في سيرك أو في موقع تصوير. وانقرض جيل كامل من العرب احتشد في المطاعم، ووراء زجاج محلات الملابس وفي مواقف السيارات وأبواب دور السينما، وفي المقاهي المُطلّة على البحر عند رأس السالمية عصراً، يتصفّح الصحف، ويدخن، ويتصايح، على مرأى من نسائه الجاثمات على الرمال وأطفاله الباحثين عن القواقع والحصى في ما خلّفته الأمواج المتراجعة على الساحل الرملي، إلى أن تغيب الشمس، وتتلألأ أضواء المقاهي على امتداد الساحل. ويبدو البحر قاتماً تلتمع فيه مويجات بين آونة وأُخرى، أو يمرّ زورق عائد من رحلة صيد يطلق وميضه في الظلام.

حين تغيب كلّ الأصوات تظلّ أصواتُ الصمت مسموعة

لم نعد موجودين إلا بين سطوري التي تخيّلتها وما لم أتخيّلها بعد. ما زال في الوقت متّسع، هذا هو ما كنتُ أعزّي به النفس حين تمرّ أيام عديدة بلا خيال. دوري موجود، وكذلك دور سكان الفيلّا المنتظرين كلٌّ في زاويته أن يبدأ العرض، وتضاء الأنوار، وتبدأ رواية الحكايات في الهواء الطلق تحت الأشجار ليشاهدنا الناس وتتطلّع إلينا العصافير. 

أجمعنا على رفض القاعات المغلقة، وفكّرنا أن أفضل حماية لمسرحنا من الشياطين التي حدّث عنها المتصوف، أن نكون بين الناس. نتجوّل كما أتجوّل الآن. الأفضل لو كان هناك برنامج عرض متجوّل، بين مقهى وحديقة وباحة ودوار، بل واقترح أبو عواد:

- "لنذهب إلى شاطئ البحر حيث تحاولون صيد السمك وتعودون بأيد خاوية، شاطئ السالمية أو شارع الخليج العربي، لكي ترانا الأسماك والقباقب أيضاً، نحن لسنا سكان برارٍ وحواضر فقط، بل وسكان جزر وبحار وربما أعماق آبار، من يدري من نكون؟".

كان يفكّر بالبحرين ويُدير الحديث إلى مشروعه هناك، إلى معبد باربار وماء بئره المقدّسة، ويرى الناس يعودون ويمتحون منها بعد غياب آلاف السنين جنباً إلى جنب مع عمال أكواخ القصب، الذين نقبوا واكتشفوا جدران المعبد تحت أنظار رجل المخابرات جيوفري بيبي، بالإضافة إلى رحلة آلاف الأميال بين الأجناس والحضارات ذهاباً وإياباً بين أطراف الجزيرة العربية، وأعماق الغابات الألمانية حيث ما زال يُسمَع صوت بوق جوال ورفرفة جناحَي طائره المتنبّئ بما سيأتي من أحداث.

أما المتصوف، فقد فكّر، حين جاء دوره، بأن كلّ هذا رائع، ولكن ثمة باحة خلفية لا بد أن تكون موجودة حين يروي أبطال المسرحية حكاياتهم، خلفية تصدر أصواتاً غير مسموعة أحياناً، إلا أنها تسمع حين تصمت كلّ الأصوات، وعندها تهمس أو تتناوح بلا توقف: 

- "هي أصوات قرانا المهدومة منذ أكثر من أربعين سنة".

نطق جملته هذه فجأة وهو يتفحّص وجوهنا. يبدو أنه استمع إلى هذه الأصوات طويلاً في تجويفه الذي اختاره مسكناً، بتعبير النمول صاحب الكتب. أما جمال فكان أول المفسرين لألغاز المتصوف بهذه الطريقة:
 
- "أعتقد أننا التقينا يا صاحبي، ألم تكن أنتَ مبيّض النحاس الذي تجولتُ معه صبياً بين القرى؟". 

هزّ المتصوف رأسه: 

- "لا وأنت الصادق، أنا كنت النساج الذي ناحت عليه قرى الكرمل، ألا تلاحظ أنني أكبرك بعامين فقط؟ فكيف أكون التقيتك صبياً؟".

وتوقّف، وأدار الكلمات في ذهنه ليعرف كيف يولجها في أدمغة من حوله: 

"التقطتها من فيلم شاهدته في نادي السينما، فيلم اسمه الصبار، هل شاهده أحدكم؟ هل سمع به؟ لا يهم، فهو موجود وصاحبته البريطانية موجودة، وحين ذهبنا إلى النادي كان من المفروض أن نجدها هناك لنتحدّث معها، ولكن بدلاً من ذلك جاء زميل لها قصير ممتلئ لا أذكر اسمه، ولكنني رأيته بعد ذلك على صفحة صحيفة ملتصقاً بقامتها الطويلة في مقدّمة مظاهرة في أحد شوارع لندن، وبدل أن يحدّثنا عن الفيلم، تحدّث بشهية عن إخوته الذين انتفضوا في القاهرة، وعن الذين سينتفضون في تونس والخرطوم... إلخ. هذه معلومات مفيدة لتعرفوا أن بريطانية صنعت فيلماً عن قُرانا هناك، عن بقايا قُرانا بالأصح، فصوّرت أشجارها والصبار الذي يدلُّ وجوده دائماً على أن بشراً كانوا هناك في يوم من الأيام، وصورت حجارة السناسل التي خدّدها المطر، وأساسات البيوت. كلّ شيء في مكانه، فبعد أن هدموا بيوتنا، وسكنوا بعضها، أرعبتهم الأشباح كما يقال ففروا إلى أمكنة أُخرى وتركوها أحجاراً حتى اليوم. اسمعوا فكرتي...".

أفضل حماية لمسرحنا من الشياطين أن نكون بين الناس

هنا قاطعه صوت سقوط شيء ما في الغرفة المجاورة تبعه صراخ يتبادله اثنان، فتطلّع المستمعون حولهم، ثم عادوا إليه: 

- "خلينا في البريطانية...". 

- "أي بريطانية؟ أنا أحدّثكم عن الحجارة والصبار...".
 
كان جمال هو صاحب "خلينا"، ولحق به أبو القشب: 

- "صحيح لماذا لا ندعوها إلى الفيلّا، و...؟".

وتحرّك الميتُ من رقدته على سريره: 

- "ومعها الملك أيضاً... كان لطيفاً معي، وودّعني باحترام". 
 
وتبع ذلك لغطٌ لم يشارك فيه المتصوف، وظلّ نائياً عنه، بينما استهجن أبو عواد هذا السخف، ورفع يده وصوته محتجّاً:

- "دعونا من سخافتكم، يا مهووسين بأي ثوبٍ اسمه امرأة... وأنتَ يا أبو القشب، ألم يكن من الأفضل لك لو عدت إلى الوعر ترعى الغنم؟".

ضحك أبو القشب: "بعد أن هربت الغنم أمثالكم إلى الكويت، لم يعد لديّ ما أرعاه". 

ضج الجميع بالضحك، حتى أبو عواد ابتلع الجواب الساخر وابتسم. وهز المتصوف رأسه: "كنتُ أقول إن فكرتي هي أن الصهاينة لم يهربوا من الأشباح، بل من الأصوات التي ظلّت تتردّد بين كرومنا المهجورة، وبين صخور وصبار قُرانا. حين تغيب كلّ الأصوات تظلّ مسموعةً أصواتُ الصمت. لديّ إحساس أن هذا الفيلم كان يصوّر أصوات الصمت الثقيلة على أسماع هؤلاء اللصوص". 

عند سماع هذا التفسير ساد الجو نوعٌ من الترقّب ما لبث أن قطعه النمولُ متسائلاً من دون أن يخفي إعجابه بالفكرة وصاحبها: "الصمت! هل يمكن أن يدخل الصمت مسرحية؟". 

- "سأقول لك كيف... لو أخذ أحدنا مسجّلة أبي عواد وتجول بين الأنقاض هناك، واستمع إلى حفيف أوراق الشجر، وإلى خفقاتِ الريح بين الأوراق اليابسة، وتناوحِ الريح بين الصخور، وزقزقة العصافير حول بقع الماء التي يخلّفها المطر. لو استمع إلى صوت تراكض الضباع في الوعر حين يلوح البرق ويهطل المطر، وسجّل كلّ هذا، ألن يكون ما نسمعه هو صوت قُرانا المهجورة، صوت بلادنا؟ ولماذا لا يمثل كلّ هذا على خشبة مسرح؟ لسنا وحدنا من يحتاج إلى أن يكون مُمثّلاً، بل الأرض وأصواتها أيضاً".


12

يُواصل المتصوّف حديثه، وأنا أواصل التجوال. 

هو لا يعرف بالطبع، ولن يعرف، كم أن فكرته هذه تجعل الحاضرالثقيل خفيفاً مثلما كانت خفيفة آنذاك حين أغرقت الجميع بحفيف قادم من قُراهم، ما تهدّم منها واختفى عن وجه الأرض، إلا من أجمة صبار أو كومة حجارة مثل قرية المتصّوف في جبل الكرمل، وما ظلّ قائماً منها يواصل أهلُه مشاجراتهم مثل قرية جمال بين تلال جُنين، على حافة الهوة التي ابتلعتنا ثم ابتلعتهم وكأن شيئاً لم يكن ولن يكون.

وأسمعُ أبا عواد يتساءل: "هذا مشهد لم يظهر في أي مسرحية حتى الآن، حتى أنا لم ألتقطه في رحلاتنا، ما رأيك يا سيد الأموات؟".

لا يسمع سيد الأموات السؤال، أو لا يفهم أنه موجّه إليه، ميرسول هو الذي يلتقطه ويجيب: "هذه أصواتٌ لا تحتاج إلى استئذان أحد. وليكن، هي لم تظهر في أي مسرحية، فلماذا لا نقولها على مسرح؟ اسمعوا، يبدو أنني سأروي حكاية الكاهنة، وتروي أنتَ حكاية معبد باربار، ويقول الميت حكايته، وخلفنا أصوات هذا الصمت، سنذهل جماعة أبو الخيزران باكتشافنا أن للصبار صوتاً وللحجارة نواحاً... ما رأيكم؟".

وتزداد خفة الأشياء. كل هذا خفيفٌ الآن مثل أدوار في مسرحية لم تتحقق على مسرح، وإن تحقّقت في تخيلاتنا وأقاصيصنا قبل أن نتلاشى من المشهد، ويتلاشى حتى المشهد نفسه بلا عودة.

لسنا وحدنا من يحتاج إلى أن يكون مُمثِّلاً بل الأرض وأصواتها أيضاً

كان لي دورٌ بالتأكيد في كلّ هذا، هتفَ به هاتفٌ في نفسي في تلك الأيام، واختلط بأدوار سكان الفيلا المغمورين الآن بظل لا أشك أن الأبدية تلقيه دائماً وهي ماضية في طريقها، أما نحن فنحاول أن نقبض عليه لأنه ظلنا الوحيد الذي نملك، ولا نتخلّى عنه. 

وأزدادُ اقتناعاً بأنه سيظهر أناس في القادم من الأيام، يقرأون ويتساءلون عن أسمائنا، ثم يذهبون إلى دوائر المعلومات وكتب الأعلام ووفيات الأعيان بحثاً عن معلومات تاريخية عن الميت، أو النائم، أو المتصوف، أو أبي عواد، أو ربما استهوتهم سذاجة الطشّ وفلسفة ميرسول، واثقين أن هؤلاء لا بد أن يكونوا شخصيات حقيقية عاشت على سطح هذا الكوكب، وآسفين لأنهم لم يتعرّفوا عليهم رغم قراءتهم لآلاف الكتب والصحائف، ولن يتوصّل الناس إلى السر، سر فن تخيّل الحياة، في هذا الجيل، وسيكون الاكتشاف ربما من نصيب جيل لاحق. 

قبل أيام قليلة من وصولي إلى حكاية أصوات الصمت، سألني صديق في مقهى بدأ يستمع إلى ما أروي قبل أن تتكامل الحكاية عن نهاية أبطالها، وذكر لي قصة رواية كتبتها امرأة مُغرمة بوضع نهاية لحياة أبطالها، ولأن بطلها كان إنساناً على قيد الحياة فعلاً، واعتاد سماع صوت المرأة وهي تكتب حياته، تتحدّث عنه أو تتحدّث إليه من مكان لا يعرف أين هو، ظنّ أن خبلاً أصابه، وظلّ يسأل ويسأل إلى أن وصل إليها. 

وفوجِئت المرأة الكاتبة به، وهي على وشك وضع اللمسات الأخيرة وإنهاء حياته، إلا أنه توسّل إليها أن تتوقّف، أن لا تقتله. وتنازعت المرأة عواطف متضاربة، فالناقد الشهير يقول لها إن الإبقاء على حياة البطل يفقد نسيج روايتها ذروته المثيرة، والمخرج السينمائي الذي ينتظر ليأخذ الرواية إلى الشاشة يصر على أن النهاية المشوقة هي أن يموت البطل، وأمام الكاتبة يقف إنسان حقيقي يرجوها أن تتوقف، أن تبقي على حياته. واختارت الكاتبة التضحية بروايتها. هكذا بكل بساطة، منحت الإنسان الحقيقي الحياة، وأسلمت روايتها للعدم. 

قلتُ: "هي اختارت الحياة".

وتذكّرتُ أمراً أدهشني؛ كلّما أرويه الآن وما رويته في الماضي لا توجد فيه شخصيات تنتهي حياتها بالموت. وفهمتُ أنني كنت أبث الحياة في الناس، أنقذهم من العدم.

وسمعتُ الناسك المحشور في مكتبتي بين مئات الكتب يقول لي: "ذات يوم انتزع تلميذ للشاعر الياباني باشو جناحَي يعسوب في قصيدة، وقدّمه إلى أستاذه على شكل قرن فلفل أخضر، فارتاع الشاعر الناسك وقال له أنت بهذا تقتل اليعسوب، هذا ليس شعراً، الشعر أن تضيف جناحين إلى قرن فلفل أخضر فتحظى بيعسوب يطير في الحقول".

وتساءلتُ: "هل سيتحول أصدقائي سكان الفيلّا إلى يعاسيب تطير في الحقول؟ هل هذا هو حقاً ما أفعله؟ وهل هذا هو السبب الذي جعل قارئاً يندب قصوره لأنه لم يتعرّف على شاعر ابتكرته في رواية من رواياتي؟ فمع إضافة جناحين إلى مجرّد اسم لا بدّ أن القارئ أيقن أنه أمام شاعرٍ حيٍّ، حقيقي ومعروف، وإن لم يصل إليه في كلّ ما قرأ".

ها أنا أصل إذن إلى هذه الخفة، الخفة التي أزالَ بها المتصوف ثقل تلك الأيام، وما زالت كلماتُه تلقي بخفتها على ثقل الحاضر تحت صفوف الأشجار، وبين متاهات المجمّعات والمصارف التجارية الضخمة، ثقل غيابنا، وأننا لم نعد موجودين بعد اليوم. 

قلتُ لصديقي صاحب رواية الكاتبة التي فضّلتْ أن تنقذ إنساناً على أن تخرج برواية على الشاشة:

- "أصدقائي هؤلاء أموات سلفاً، يطمرهم الغياب في مكانٍ ما في هذا العالم، أو هم ضائعون تحت السماوات، وعملي هو أن أواجه هذا الموت ونظرته القاتلة، أواجه الضياع ذاته. ألا تشعر وأنتَ تقرأ بأن هنا أناساً يعودون من غيابهم العميق؟ ألا تشعر أن ها هنا مرآة ترتفع كلّما تقدّمت الرواية تصدُّ عنا نظرة الموت التي تحجر كل ما تقع عليه؟".

لقد منح المتصوف - لا أعرف أين هو الآن - غرفتنا ملايين النوافذ، ووضع بين أيدينا هذه المرآة لننظر منها إلى وجودنا مواربةً، حتى لا نتحجّر، حتى لا نقع أسرى اللحظة الراهنة. ربما لم ندرك هذا آنذاك، إلا أن الحيوية التي تدفقت في سكان الغرفة، وجعلت كلّ واحد منهم يحمل مرآته وينطلق بحماس لأداء دور، مهما كان صغيراً، في تلك المسرحية، غيرت اتجاهات الطرق أمامهم، بل وغيرت حتى معاني الأصوات التي بدأ كلّ واحد منهم يسمعها عائدة إليه من ماضيه.

سيبدأون الآن بالالتفات إلى الحجارة التي خلّفوها على طرقات الطفولة، إلى الأنقاض التي مروا بها لامبالين، إلى ندى تلك الأيام والطرقات الموحشة والوحول، ويأخذون كلّ هذا إلى طرقات حاضرهم، إلى أمسيات المقاهي في برلين أو صوفيا، إلى الشوارع السريعة والمُروج، إلى ظلال المآذن على ضفاف البوسفور، إلى جلسة بائع الشاي العجوز وراء بخار أباريق الشاي بعد منتصف الليل في بغداد، إلى أصوات الدلّالين والمُشترين في حراج السيارات في الكويت، إلى صخب سكان الفيلّا المُطلّة على البحر الساكن منذ زمن لا يُدرك أحدٌ مداه. 

المساهمون