ننشر على حلقات رواية "أصوات الصمت"، للشاعر والروائي والناقد الراحل محمد الأسعد الذي غادر عالمنا في سبتمبر/ أيلول 2021، وكان من طليعة كتّاب القسم الثقافي في "العربي الجديد"، وأحد أبرز كتاب فلسطين والعالم العربي.
20
لوحةُ البيوت الطينية والبحر المعلّق فوقها بضربات فرشاة زرقاء قاتمة، ترتفع الآن على جدار في صالة مكتب تصدير واستيراد، بينما استقرّت لوحة المسجد الرُّخامي المُضاء من الداخل ذي السعَف الشَّبحي في حقيبة راحل من الكويت، وأخذ الطشّ معه لوحته التي رسمتُ على قماشتها ما لمحتُه في وجهه من سذاجة، بضربات ناعمة، وألوان برتقالية على أرضية نارية حمراء.
لم يبقَ لديَّ من كلّ ما رسمتُ سوى خطاطاتٍ على أوراقي وفي مخيّلتي، وناسكٍ يتحسّر، محشوراً بين الكتب، على أنّ الإنسان في اللحظة التي يكتمل فيها، وينضج مثل ثمرة ريّانة، لا يكون صالحاً إلّا للسقوط عن غصنه. وشظايا مسرحية يقول المتصوّف أنّها هي المسرحية وما عداها فضولُ قول، وشريط من أشرطة أبي عوّاد تتردّد فيه أصواتُ الملاعق وأكواب الشاي، ويهمس فيه شخصٌ مجهول قائلاً:
"وهل هناك مكان للنوم؟".
لم يحتفظ أحد منّا بأصوات الصمت، فالفيلم الذي وصفه المتصوّف لا يعرف أحد في أيّ مخزن مهجور يرقد الآن، ولم يذهب أحد إلى هناك حتى الآن ليسجّل هذه الأصوات التي تتردّد، وستتردّد غداً وكلّ يوم.
كلّ ما لدينا كان فكرة، وضاعت الفكرة في الضجيج الذي ساد بعد سقوط الطشّ على أطراف بيروت، ورحيل النمّول لإنقاذ الجنرال الأفريقي الضخم، ووقفة أبي عواد على ظهر سفينته يتأمّل شواطئ نيوزيلندا، وجلسة الميّت في مقهى من مقاهي عمان زاعماً بقبّعته العريضة أنه حفيد ماركيز فرنسي، وسعادة ميرسول - أخيراً - لأنه تحوّل، كما يقول، إلى رجل خَفيٍّ على تلال عمّان بنعمة رفيقةِ جولاته في الحدائق التي حرّرته من كلّ القيود.
اللحظة التي يكتمل فيها الإنسان وينضج، لا يكون صالحاً إلّا للسقوط عن غصنه
كلّنا ارتسمنا في ذاكرةٍ ما، كما يبدو، ولكنّ الطريق إليها كما في حكاياتنا الشعبية، تمرّ بأراضٍ تسكنها الغيلان، ولا بدّ من وسائل. هي كما يُروى مغفّلة وغبيّة، ومن السهل خداعُها، بل وجعلها تقودنا في الطريق إلى ذاكرتنا إذا حفظنا الدرس جيداً؛ أن نتقدّم منها بشجاعة، ونُسلّم، ونُسارع ونرضع من ثدي الغولة ونأكل من قمحها، وعندها ستحمينا حتى من أبنائها المتعطّشين إلى دمائنا، بل ستجعلهم إخوةً لنا. ولكنْ؛ ألَا يعني هنا أننا سنتحوّل إلى غيلان أيضاً، وننسى ما جئنا من أجله كما فعل الذين سبقونا؟
توقّف ميرسول ذات يوم أمام لوحة من لوحاتي، وتأسّف على الوقت والمال الذي أُضيّعه على هذا القماش والألوان، مثلما كان يُبدي أسَفه على جهود أبي عوّاد وحماسه لتهريب الكتُب، ولكنَّ الطشّ بسذاجته اهتزّ مثل شجرة تُزهر فجأةً حين شاهد ملامحه ترتسم على قماش اللوحة، وحتى الميت لم يُخفِ ذهوله وإعجابه، وذكّرته الألوان بما رآه يوماً في أرجاء القصور المَلكية، وفكّر النائمُ بأخذ بعض لوحاتي ليعرضَها على روّاد المقاهي الألمانية حين يرحل إلى برلين، أما المتصوّف، فقد روى قصة الرسّام الساحر الذي رسم حقلاً ودخل بين أشجاره واختفى، فقلت:
"ولكنّني لا أفكّر بالاختفاء، بل بزادٍ نحمله حين نذهب؛ بحثاً عن ذاكرة أهلنا وقُرانا ونُواجه الغِيلان".
21
حين تعود أدراجكَ من البحر إلى اليابسة، مبتلَّاً بذكرياتٍ كتلك التي مررتَ بها مثلما مرّتْ بها الأشجارُ الوحيدة وبقايا البيوت، وتمرّ بالكنيسة الساكنة في صمتها وحشْدِ الآسيويّين أمام بوّابتها، ثم تصلُ إلى المجمّعات التجارية الهائلة الارتفاع، وأبوابها التي تهبُّ منها برودةٌ ناعمة تختلف عن تلك البرودة العَطِنة التي هبّت ذات يوم من أبواب البيوت الطينية، يضغط عليكَ الغيابُ مرّة أُخرى، ولكنْ بقبضة أشدّ، مُضافاً إليه إحساسٌ بالغرابة، غرابة أن تتبدّل المرئيات فجأةً، كأن شيئاً ما لم يتحوّل ويتغيّر بل ماتَ ببساطة، وسقط فوقه شيءٌ من الفضاء ومحاه.
الوجوهُ حولكَ لا تحمل شبهاً بالوجوه التي كانت تملأ الفراغ المتمدّد حول فندق "الشيراتون"، وهو يطلّ على حافة الكويت، وبابها الخشبي المُنفرد بلا سور للتذكير ببوّاباتها القديمة، وتحتشد فوق دوّاره المُعشِب. وعلى بداية جانبي شارع الجهراء قبل أن يوغل في قلب المدينة مُحاطاً بالمارّة والأضواء وحوانيت الأجهزة الكهربائية، والأقمشة والمطاعم المحشورة بين الأعمدة.
هذه وجوهُ نساء ورجال يتطلّع أحدها إلى الآخر، وأصحابها ينفثون دخان لفافاتهم، أو يمتصّون العصير من عُلبٍ صغيرة بقصب من ورق من دون غاية محدّدة.
الوجوهُ حولكَ لا تحمل شبهاً بالوجوه التي كانت تملأ الفراغ
وتتزايد الغرابة تدريجياً، وأنتَ تتّخذ طريقك مُحايداً ومُباعداً بينك وبين هؤلاء الذين سفعتهم شموسُ أقاصي آسيا، حتى تحوّلوا إلى تماثيل أبنوسية وبنّية وسمراء فاتحة بلون الطين المشوي، يتحرّكون ويتحدّثون أو يتوقّفون كأنما في فراغ لا هواء فيه.
ليس بينهم وبين الأسماك شبَه، ولا يُشبهون البُداة الذين مرّوا مع قوافلهم وأطفالهم الحُفاة، ونسائهم الأقرب شبهاً بمومياءاتٍ ملوّنة متعثّرة تلفُّها عباءاتٌ سوداء قبل مئة عام، ولا يُشبهون بالطبع عربَ شواطئ المتوسط الذين جاؤوا قبل خمسين سنة ببناطيلهم وقُمصانهم المجعّدة الملبّدة بالعَرَق والغُبار، وهم يتجمّعون في ساحة الصفاة الرملية، ويساومون المقاولين، وأصحاب الشاحنات على أُجورهم، وهم يمسحون عرقهم ويحمل كلُّ واحدٍ منهم زجاجة ماء، أو يهرع إلى بائع مثلّجات قصير قابع أمام عربته الصغيرة.
هؤلاء لم يخرجوا من المياه بالتأكيد، بل من غاباتٍ تنسّكَ وتعفَّن فيها أجدادُهم وما زالت روائح مخلّفاتهم تملأ أجواءها الرطبة، ومن جبالٍ نائية وعرة تدوم فيها رياح ثلجية، ومن حقول تغرقها أمطار الرياح الموسمية، وتطفو فوق مياهها المُوحلة جُثث الأبقار وجذوع الأشجار، وانسلّوا كما لو أنهم ينسلّون من ظلال مُعتمة إلى أطراف الحواضر، زاحفين بخيالات نجهل من أيّة مادّة صُنعت، ومن أيّ مشاهد مسرحية هبطت بعد انتهاء العَرْض وتفرّق الجمهور.
بعيدون عنكَ، لا يُلمَسون، ذاهبون في غرابتهم ولغاتهم، متوحّدون ولا ريب مثل كلّ المتوحّدين في العالم، يحملون قصصاً كما تحمل كلّ الشعوب التي اندثرتْ، أو رصفها صيّادو شركات الملاحة على رفوف مكاتبهم التجارية، أو أخذها العلماء المهذّبون إلى متاحفهم.
وإنْ تسنّى لأحدنا أن يكون موجوداً لمرَّ به العابرون ولم يلحظوه
لهم كلّ هذا إلا أنهم لا ينطقون، ولهم الفضاء نفسُه الذي لكَ إلّا أنهم غير مألوفين كما كان من قبلهم على هذه الأرصفة ذاتها مألوفاً وقريباً بالنسبة لك.
لم تكن مُحايداً آنذاك، أو لم تكن تسمح لك بالحياد لغةُ الصحف، ورسوم ناجي العلي، وروّاد المطاعم والمكتبات ودُور السينما الذين رحلوا ورحلتْ معهم مطاعمُهم ومكتباتهم ودُور سينماتهم، كلّ شيء كان أليفاً حتى حين دفع شجارُ ظهيرة بالنائم إلى لَمْلَمة ثيابه، والانتقال إلى غرفة أُخرى وزملاء آخرين، وحتى حين تعرّض أبو القشب لسخرية ميرسول، فغاب عن الفيلّا شهوراً طويلة، وحتى حين تضارب الطشُّ وأبو عواد بسبب نشيد من أناشيد الثورة، يقدّسه الأول ويسخر منه الثاني سخرية جارحة.
ذات ليلة، في وسط هذا الدوّار ذاته، وعلى العُشب ذاته، وتحت النخلة التي تتوسّطه، تناول سكان الفيلّا معاً قهوة جلبوها من مطعم على الرصيف، مطعم لم يعُد يتذكّره أحد، وسهروا حتى وقت متأخّر من الليل، ونامُوا على العُشب مثل أرانب مطمئنّة إلى أنْ لسعتهُم شمسُ أوائل النهار، فأقسموا بعدها أنهم لم يستغرقوا في النوم طيلة حياتهم مثلما استغرقوا في تلك الليلة.
وعدّ النمّول هذه الليلة بدايةً يؤرّخ بها تقويم جديد، ليس الهجري ولا الميلادي، وإنما تقويم خاصٌّ بالصعاليك، وأصرَّ على تسجيل خبر اليوم والليلة والصباح التالي، واعترض ميرسول قائلاً إنّ الصعلكة في هكذا بلد انتحار. كان يفكّر بحيّ مونمارتر الباريسي الذي لم يعرفه إلّا على الورق.
الألفة، ربّما، هي العنوان الملائم لهذا التقويم، فمن الأُلفة تنبثق الأشياء انبثاقاً، ويخلق الإنسان خلقاً جديداً، لا من هذا الحياد البارد الذي تجدُ نفسك فيه مفكّراً أنه حتى الجدران والأعمدة في الشارع لم تعُد هي ذاتها، ولا هذا المسجد المتضائل بين المباني الشامخة على الرصيف. صحيح أنه مازال قائماً، ولكنه صار رخامياً قاسياً، واختفى النخيل الذي كان يرتفع بجوار منارته، وسعفه الشبحي المُعتم، حين كانت تضاء جدران المسجد من الداخل.
وفق تقويم الألفة، لو اعتمده سكان الفيلّا، لأطلقوا على هذا الزحام بين الأعمدة وأمام حوانيت الملابس، وأمام حافلات المواصلات، أيّ اسم يُشير إلى أننا لم نعُد موجودين، وإنْ تسنّى لأحدنا أن يكون موجوداً، كما هو حالي الآن، لمرَّ به العابرون ولم يلحظوا وجوده.