"أبراج من ورق" لسعيد رضواني.. اللغة هي الأصل

13 اغسطس 2023
محمد بن علال/ المغرب
+ الخط -

"أبراج من ورق"، رواية المغربي سعيد رضواني، الصادرة عن "دار الآداب" اللبنانية، ليست مألوفة وليست على أيّ غرار كان. من الواضح أنّها صادرة عن مخيّلة وجدل لا أصل لهما في روايتنا، مع أنهما ليسا غريبَين عن ثقافتنا وخطاباتنا. يمكننا القول إنّ رواية رضواني تغامر في مجالٍ ليس للرواية العربية سابقة فيه، بالرغم من كونه أصيلاً ومتردّداً في ثقافتنا.

حين نرجع الى اللغة، فنحن عندئذ في أكثر موضوعاتنا أصالة وبروزاً. قد تكون اللغة إرثنا القومي الوحيد وهويتنا الأُولى. مع ذلك نتعجّب من أن نجد رواية مثل "أبراج من ورق" تقوم على ما تسمّيه هي تناظراً، أو هو بمفهومها موازاة بالتضاد، موازاة متناقضة بين اللغة والطبيعة والمعمار بوجه خاصّ. هكذا نجد أنّ الضيعة التي أسّسها الجَد، هي عبارة عن مبان على شكل أحرف عربية ولاتينية، أي أنّنا أمام كتابة إسمنتية كما يسمّيها الروائي. نحن أمام اللغة وقد استحالت مبانيَ ضيعة، المباني هذه تتألّف من أحرف مشيَّدة منصوبة عربية لاتينية في البدء، لكنها وقد خربت وتهدمت فإنّ إعادة بنائها ستكون هذه المرّة من أحرف عربية خالصة.

تقوم على موازاة متناقضة بين اللغة والطبيعة والمعمار

هذا التغيير ليس بالتأكيد بدون دلالة، فالانتقال من ازدواج عربي لاتيني إلى عربية صافية لن يكون مجّانياً، ولا بدّ أنّ وراءه سبباً لا نجازف إذا وجدنا فيه ملمحاً سياسياً، بل نحن لا نجازف إذا وجدنا في المسألة كلّها فكراً، للسياسة ضلعٌ فيه. اللغة هي العنصر القومي التوحيدي المفرَد بالنسبة للعرب. لن نستعيد أمثلة تبدو فيها اللغة المقوّم الأساسي وراء وجود الأمّة، وراء الهوية القومية، يمكن أن نُفكّر مثلاً بهايدغر الذي وجد أنّ الفلسفة تتكلّم الألمانية، أمّا بالنسبة للعرب، فاللغة تكاد تكون المقوّم الوحيد للأمّة، والعنصرَ الأساس في هويتها، والعاملَ المفرد في وحدتها. يمكننا هكذا أن نفهم كيف يبني الجَد، وبعده الأب والحفيد، من اللغة وعلى اللغة.

أبراج من ورق - القسم الثقافي

لكن رضواني، الذي نال على روايته هذه جائزة غير مألوفة، "جائزة أسماء صديق للرواية الأُولى"، لا يجد فقط اللغة وراء البناء وأصله البعيد، لا يرى فيها فقط الأساس الأوّل للوجود والهوية، لكنّه يجد في هذين ما يمكن أن يكون كتابة مفهومة، بل ينسب إلى اللغة هذه وعياً مسبقاً وشهادة ودليلاً اتهامياً. رغم أنّ الجَدّ هو الذي أسّس الضيعة على الغرار الذي سلفنا، فإنّ البناء الخرب الذي تذمّر بعد رحيل الجَد وانتقال الأب يحوي، على نحو غير مفهوم، اسم القاتل الذي فتك بالأب، والذي يفك الحفيد شيفرته ويتميزه ويسعى إلى الثأر منه.

يُغامر الكاتب في مجالٍ ليس للرواية العربية سابقة فيه

اللغة تتكلم في البناء والطبيعة، تتكلّم عبر الأجيال وتحمل الحقيقة من جيل الى جيل. الأب القتيل كاتب، والرواية الوحيدة التي كتبها ونُشرت بعد وفاته تتضمّن، على النحو نفسه، شهادة الأب على قاتله، لهذا سعى القاتل، الذي هو في الوقت نفسه مُخرج لكنّه أيضاً ملّاك في الضيعة ويسعى إلى الاستحواذ عليها، ويقتل في سبيل ذلك صاحبها، على نحو لا يُفهم إلّا إذا عدنا إلى مسألة الهوية والأصل اللغوي. 

قتل الأب مثال على قتل اللغة وقتل الهوية، لكن الفريد في الرواية هو هذا التناظر المضادّ بين اللغة والوجود. اللغة هي التي تفكّر بعيداً عنّا، تفكّر لنا وبنا وعنّا. اللغة التي تتحوّل إلى نظام حياة كامل.

يمكننا أن نرى في ذلك موازاة روائية، بل وتخييلاً كاملاً لما يمكن أن نجد فيه نظام هوية ونظرية كاملة للوعي القومي. رضواني يحيل ما يمكن اعتباره ميتافيزيقا قومية إلى تخييل غرائبي وفنتازيا. يحوّل هكذا ما يمكن تسميته الانبعاث القومي إلى أسطورة لغوية. تبدو رواية "أبراج من ورق" وكأنّها تَبني، من بعيد، على رواية بوليسية، لكن اكتشاف القاتل لا يبدو همّ الرواية، القاتل معروف، اللغة تعرفه وتسمّيه. اللغز في الرواية هو اللغة والجريمةُ تقع تحت أنظارها، وهي التي تتّهم وتُجرّم وتُسمّي.


* شاعر وروائي من لبنان

المساهمون
The website encountered an unexpected error. Please try again later.