للعيش بعيداً عن النّاس، محتجَزاً في السجن، كما هي حال عبد اللطيف اللَّعبي في كتابهِ "يوميات قلعة المنفى"، سِماتٌ ليس يسيراً إدراكها بالنسبة إلى مَن يعيشُ حياةً عادية يقابل الآخرين ويودّعهم، ويعود إلى المنزل في المساء. فالمُحتَجَز يكتسب - من غير أن يستطيع فعل شيءٍ حيال ذلك - طِباع المُتَنَصِّت. غير أنّه ليس تنصُّتاً على الآخرين، فهُم بعيدون. بل يَتَنصَّتُ لسنوات على حياتهِ الداخلية. يراقبُ نموّها، كأنّ عيناً نبتت في داخلهِ، وباتت لا تتوقّف عن كتابة تقارير يوميّة عن تغيُّرات لا تَكادُ، لفرط حساسيتها، تشغل الانتباه. لكنّ تراكُم التغيّرات الطفيفة لسنوات يصنع شخصية جديدة خرجت من رحم تلك الشخصية التي دخلت المُعتَقَل.
المُحتَجز بعيداً عن الناس يخوضُ حرباً لا يدري بها أحدٌ غيرهُ؛ فهي حرب داخليّة، ويشهد صراعاتٍ تبدأ وتنتهي في عالمه الداخلي. يتساءل عمّا سيصنع بتلك التغيُّرات التي لا مناص من حدوثها، وما إن كانت تجعل منهُ إنساناً أفضل؟ أم أنّ السّجان يتحكّم بالصورة التي ينتهي إليها السجين؟
في كتابهِ "يوميات قلعة المنفى: رسائل السجن 1972 - 1980"، الصادر بطبعة جديدة عن "دار الرافدين" بترجمة علي تيزلكاد والمؤلّف، وتقديم الناقدة اللبنانية يمنى العيد، يصوّر لنا عبد اللطيف اللَّعبي بأسلوب مفرط في العذوبة تلك المعركة الذاتيّة التي شهدها بعد دخولهِ المعتقل إثر نشاطه السياسي سنة 1972، حتّى خروجه سنة 1980. يبني اللَّعبي ذلك المَسار النفسي للتغيّر الذي يخضع لهُ السجين السياسي، ويستدعي كلّ ما ساهم في صناعة وعيِه، الكتب والأصدقاء، والشِّعر على نحو خاصّ، وأيضاً العائلة.
تصلح الرسائل لأن تكون درساً في محاولة الشفاء من القمع
والأهمّ من كلّ تلك الأدوات التي استدعاها في مَسعَى صمودهِ، كان حُبُّه لجوسلين التي انتظرتْه طوال سنوات الاعتقال، فالرسائل التي نقرأها على امتداد 416 صفحة معظمُها موجّهٌ إليها، مع رسائل قليلة لأصدقائهِ ولأطفالهِ، ياسين وهند وقُدس. وكانت الأخيرة قد وُلدت مع اعتقالهِ، إنّها من عُمر المِحنة التي شهدتها تلك العائلة التي تآزرت بالحُبّ، وصَنَعَ شَقاء الاعتقال والبُعد رباطَها الحميم.
يسرد اللَّعبي في الرسائل يومياته في السجن؛ انتصاراته الصغيرة مع زملائهِ في تجهيز حديقة صغيرة، وتأقلمه مع ظروف الاعتقال، حيثُ أَعدَّ من الصناديق أثاثاً لمكتبه. وإلى جانب الصناديق كان يأنس لحضور عائلتهِ؛ يخبر جوسلين في إحدى الرسائل:
"تعوّدت على رقعة زنزانتي الضيّقة. وضعت صورتك على الرفّ العلوي. وهكذا فإنّك تراقبين كلّ ما أفعله، تكتنفينني بحضورك. على الجدار، بجانبي، ألصقتُ صورة قُدس. تلك التي تظهر فيها، بخصلات شعرها، تنفخ بطنها وتبتسم بمكرٍ ساحر. إنّ بسمتها تُضيء حجرتي بحقّ".
رافقت طقوسٌ مشابهة تنقّلات اللَّعبي من سجن إلى آخر، إذ بدا حضور العائلة جزءاً من محنتهِ، لكنّه جزءٌ يُقارِعُ من خلالهِ الظروفَ التي دفعه إليها إضرابه عن الطعام، والعزلة المفروضة عليه، إلى جانب مرضه أثناء إقامته الطويلة في ظروف سيّئة. وقد ترافق هذا الجزء التقليدي في حياة السجناء مع جانب آخر، وهو تعامل اللَّعبي مع مِحنته. إذ تصلح الرسائل لأن تكون درساً في محاولة الشفاء ممّا تحاول آلة القمع تدميره من خلال رهن حرّية البشر، ومَسْخ صورة الحريّة داخل نفوس المعتقلين.
وتتلخّص الأساليب التي قاوم من خلالها اللَّعبي التغيّرات السامّة، في أمرين؛ أحدهما يجيء من شعوره بأنّ هناك مَن ينتظره في الخارج. فأطفالهُ يكبرون؛ تُشاركه جوسلين اللَّعبي خطواتهم واحدةً واحدة، وتنقل له صراعاتهم، ومعاركهم الخاصّة مع الحياة، وهُم يَعون تدريجيّاً موقعهم بالنسبة إلى الآخرين.
لقد ترك غياب الأب ظلاله على الأطفال، وكان اللَّعبي الأب يعرف أنّهم يحتاجونه في الخارج معهم. نجد في الرسائل سعياً مريراً كي يتواصل مع حياة أطفالهِ اليوميّة: ماذا يفعلون في أيامهم؟ كيف يغضبون؟ كيف يعبّرون؟ يقرأ محاولاتهم الشعرية ويرى رسومهم، ويتأمّل كلّ ما يصدر عنهم أثناء زيارات يوم الجمعة من غير أن يستطيع أن يعانقهم، كما تشغله انقطاعات الأولاد عنهُ. وفي سعيهِ المحموم ذاك كان اللَّعبي ينجو من الخراب الذي كاد يطاولهُ لولا إدراكه دورَه بأن يكون المثال والقدوة في حياة أطفاله. دورٌ - وإن بدا شاقّاً أداؤه بالنسبة إلى أبٍ مُبْعَد - نهض به الشاعر المغربي بفضل حساسيّته الإنسانيّة وبراعته في نشر قيَم الودّ والمشاركة.
يسرد يوميات حياته العادية في السجن وانتصاراته الصغيرة
أيضاً ما أنقذ اللَّعبي هي الثقافة، وهي تجربة مشتركة لدى المعتقلين السياسيّين. اللَّعبي لم يكن حالماً بصورة غير واقعية في يومياتهِ، إذ عرف خلال سنوات سجنهِ الطويلة فتراتِ عزوف عن القراءة. لم تصل درجة اليأس، فاليأس في عُرف المناضلين غير موجود. يتحدّث اللَّعبي طويلاً عن قراءاتهِ في السجن، عن مشاريعهِ قبل الاعتقال مثل مجلّة "أنفاس" وروايتهِ الأولى "العين والليل" وديوانهِ الأول. إنّها أعمال أُولى للشاعر، فقد اعتُقل في بداية مشوارهِ الأدبي. وفي آخر سنوات الاعتقال، عاد مشروعه الأدبي يشغله، فعاد للحديث عن الترجمات التي يحضّر لها، وعمّا تعلّمه في المُعتقل.
في علاقة اللَّعبي مع جوسلين، التي تحاول ما استطاعت إشراكَه في ما يحدث في العالم الخارجي، يدرك القارئ ما يمكن للحُبّ أن يصنع، وما يمكن للبشر أن يصنعوه في حياة بعضهم. بدا أنّ اللَّعبي استطاع الاستمرار، لأنّ جوسلين تحبّه. واستطاع المقاومة، لأنّه إنسان محبوب. وفي هذا فضيلتُه التي ليس للسّجان أن ينزعها عنه. لكنّ الرسائل التي تؤلّف الكتاب هي رسائل من جانب اللَّعبي، فنحن لا نعرف ماذا تكتب له جوسلين، باستثناء سطرين أوردهما: "حبيبي، لحظة حنان معك. كم ينقصني حضورك. أن أعيش إلى جنبك، يبدو لي حلماً، إلى درجة أنِّي متيقّنة، أنّه عندما تحين تلك الفرصة، فسيصعب عليَّ تصديقها". إذاً، بقاء الأمل بخروج اللَّعبي، ووجود مَن ينتظره، كان أشبه بالعزاء لدى السجين.
قبل أن يخرج اللَّعبي من الاعتقال بأربعة عشر يوماً يكتب إلى صديق له: "أشعرُ بنفسي مُرتاحاً هذا المساء في زنزانتي، مرتاحاً مثل بحّار في عرضِ البحر، مُحاطاً من كلِّ جهة بالأفق، ولا يتوقّع عن قريب أي مرسى...". مع هذه الصورة للبحّار العائد إلى زوجته في عرض البحر، من غير توقّع مرسى؛ تحضر صورة أوديسيوس التائه الذي يريد العودة إلى جزيرة إيثاكا حيث زوجته بينيلوبي بعد مشاركته في حرب طروادة. وكذلك اللَّعبي خاض تلك الحروب التي تحدث داخل الإنسان، قبل أن يتمكّن من العودة إلى جوسلين أخيراً.
* كاتب من سورية