تُعلّمنا معارض جميل مْلاعب المتتالية أن ننتظر كلّ شيء، من فنّان ينقلب على نفسه كلّ مرة، ويبقى بعد كلّ معرض مفتوحاً على مختلف الرؤى والأساليب والموضوعات. في معرضه الأخير "لبنان: الجمال والثقافة" (اختُتم في 30 كانون الأوّل/ ديسمبر، في "غاليري جانين ربيز" ببيروت)، لدينا ما ننتظره؛ فالفنّان، الذي يُجازف كلّ مرة بلوحة بعد أخرى، لا يزال كعهْدنا به. معرضه ينتزع، كما هو حاله دائماً، دهشتنا، لكنّنا مع ذلك لن نغفل عن أن نجد في معرضه هذا تواصلاً، بل وتطويراً لمعرضه السابق.
كلا المعرضين طموحٌ لجِدارية، بل هما معاً، وخاصّة الأخير، جدارية معاصرة. لوحته الحالية هي غالباً لوحة كبيرة، إنها شكلٌ يتجاوز ضِلعُه المتر، والمساحة كلّها من الأعلى إلى الأسفل مليئة بتخريمات صغيرة في الغالب. هي، وإن كانت مصفوفة من فوق إلى تحت بأحجام شبه متوازية على مساحة اللّوحة كلها، تملؤها وتُنمنمها وتطرّزها تقريباً. إنها هكذا نقشٌ ضخم وزخرفة متوالية وعمل يتراوح بين التشكيل والكتابة، بل إنها هكذا كتابة تشكيلية.
هذا يذكّر بالألواح المنقوشة الأثرية، وهو أمرٌ مقصود بالطبع، فالأشكال المنقوشة تستعيد، من بعيد وقريب، النقوش التي وصلت من حضارات متعدّدة. هنا نجد أصداءً وترسيمات فرعونية وآشورية وبابلية مختلطة وبيزنطية وراهنة. بل يتراءى لنا، ونحن نتأمّل اللوحات، أننا أمام إيحاء بالتاريخ. بل نحن أمام دينامية تشكيلية هي، من بعيد أو قريب، التاريخ نفسه، وراء اللوحة الطامحة لتكون جدارية أو هي، على نحو، ما استعادة للجداريات.
من هنا نحن أمام دفْقٍ أو تحشيد أو اصطفاف أو مدّ، ومن هنا لا نجد فقط أثراً بل نجد أيضاً انفجاراً وغَلياناً ودوّامة. أي أنّنا نجد أنفسنا أمام التاريخ وهو يتشكّل ويعمل. ذلك ما يعيدنا أيضاً إلى نوع من تنقيطية، تحلّ فيها المصغّرات محلّ النقاط، ناهيك عمّا في اللوحة من إيعاز في الزمن. وإذا تذكّرنا أن جميل مْلاعب رسم المظاهرات المليونية التي ثارت في الشارع اللبناني بعد 17 تشرين الأوّل/ أكتوبر 2019، إذا تذكرنا ذلك، بدا لنا أن هذه العودة إلى الجداريات وإلى النقوش الأثرية، هي أيضاً، وربّما بتأثير الأحداث نفسها، عودةٌ إلى الغَليان الجماهيري، وأن هذه اللوحات تحمل، ولو من بعيد وبالرمز، صورةً لحراك الشارع والحشد الجماهيري.
نحن إذاً أمام لوحة تُوازي، بلغة تشكيلية ورمزية، حراك الشارع. أي أنّنا، إذا استعدنا النقوش المصرية، أمام هيروغليفيةٍ معاصرة. أي أنّنا، ولو من ناحية أُخرى، أمام ما يُعادل الكتابة. إنّنا هكذا أمام فنٍّ بالخطّ. الجدارية هي هكذا مكتوبة، إنّها، من أعلى إلى أسفل، رسومٌ مخطوطة. إنّنا أمام كتابة على نحو آخر. نجد اللون في خلفية اللوحة، إنه فقط تأثيثٌ للصفحة، أمّا الرسوم فهي مصفوفة متواصلة على نحو غرافيتي.
لوحات مْلاعب تشبه نصوصاً أو ملاحمَ قابلة للغناء
إذا نظرنا، فسنجد مقوّماً آخر يشبه الكتابة. إنّ الرسوم في كلّ لوحة تبدأ بأشكال تكاد تكون الجملة الأولى أو الكلمة الأولى. هذه الأشكال في حجمها وتشكيلها تكاد تُستعاد على طول اللوحة. إنّها تنحو في ذلك منحىً غرافيتياً، أي أنّها، على اختلافها وعلى مصادرها المتنوّعة وعلى العصور المتباعدة التي صدرت عنها ــ من الهيروغليفي إلى البابلي إلى المعاصر ــ هي على ذلك كلّه تملك قماشة خطوطية وحركة تشكيلية وإيقاعاً وأشكالاً من مصدر واحد. أي أنّنا أمامها نشعر أنّنا أمام أبجديةٍ واحدة، أمام نصّ واحد، وأن الشكل يُقارب أن يكون كلمة والسطر يكاد يكون جملة، والعمل في كلّيته عبارة عن نصّ متكامل.
نحن هكذا أمام فنٍّ بين التشكيل والكتابة، بل نحن، بسبب ذلك، أمام نصوص مختلفة. كلّ لوحة، وأحياناً كلّ عمود في لوحة متشكّلة من عدّة أعمدة، في كلّ واحدة من ذلك نحن أمام لغة مختلفة، غرافيتي أخرى، أبجدية جديدة. يمكننا بذلك أن نُقابل اللوحة باللوحات المحفورة، لكنّنا، بالقدر نفسه، نملك ما يجعلنا نعتقد أن اللوحة الواحدة هي هنا مقابل ملحمة. فالنصّ الذي نراه قابلٌ لأن يُغنّى، قابلٌ لأن يكون، في الوقت نفسه، قوافيَ وأوزاناً.
إنّنا هكذا أمام شعر؛ إذ إن التاريخ الذي يُروى هنا ليس فقط ملحمة، إنه رواية بقدر ما هو تاريخ، بل هو، إذا عدنا إلى التظاهرات المليونية التي سبقت الرسم، يكاد يكون مدينة. هذه السعة التشكيلية وهذا الحشد هما أيضاً، من بعيد، مدينة مرسومة ومخطوطة.
* شاعر وروائي من لبنان