تختص زاوية "صدر قديماً"، التي أطلقها القسم الثقافي لصحيفة وموقع "العربي الجديد" في شباط/فبراير 2017، بتقديم قراءات في كتب عربية مرّت عقود على إصدارها وما زالت تنبض براهنية تستدعي قراءتها واستعادة أصحابها.
يبدو اليوم استقلالُ النّقد الأدبيّ ــ كفرع معرفيّ ــ بداهةً لا يشكّكُ القارئ العربي فيها، مع أنّه كان، وقبل عقودٍ معدودة، مجرّد معارف انطباعيّة، غير منتظمة في نَسق مستقلّ، ولم يكن موضوعه مُحدّدًا ولا منهجُه مُنظّرًا له. فلطالما مُورس نقدُ الكلام الأدبيّ إمّا في إطار البلاغة التقليديّة بأدواتِها المفهوميّة القائمة على المجاز، أو عبر عمود الشّعر الذي أصّله المَرزوقي (ت. 1030) وطوّرَه ابن سنان الخفاجيّ (1032 - 1073) بعد أن بيّن مَعاييرَه المنبثقة مما أسماه: "سرّ الفصاحة".
كانت نقطة التحوّل تلك الجهودَ التي بذلها المؤرّخ أحمد أمين (1886-1954) في التنظير لهذا الفنّ دفعًا لاستقلاليته، وهذا في حدّ ذاته مؤشرٌ دالّ على انطواء هذه المعارف ضمن الأنساق المعرفيّة الأخرى. فقد دَرّسه أولًا ضمنَ علم البلاغة، سنة 1926، لمّا عُهدَ إليه تدريس هذه المادّة في "جامعة فؤاد الأوّل" فكان وهو يعالج تاريخَ الإسلام وأطوارَه السياسيّة وتعابيره الثقافيّة، يعرض ما يكتشفه لدى القدماء من المؤلّفات والنظريات حول النقد الأدبي. فقرّر آنذاك أن يخوض غمار التقعيد لهذا العلم في كتاب "النقد الأدبي" الصادر سنة 1952. وقد خصّص جزأه الأول لمبادئ هذا الفنّ ونظريّاته وأهمّ المفاهيم فيه، وثانيه لدراسة تاريخه عند "الإفرنج" والعرب.
خطوة كبرى في ترسيخ فرع معرفي كان مقتصراً على الانطباعات
انكبّ صاحبُ سلسلة تاريخ الإسلام على قراءة المصادر العربية واستقاء ما فيها من المعلومات، مثل كتاب "طبقات الشعراء" لابن سلاّم و"كتاب الصّناعَتَيْن" لأبي هلال العسكري، و"المثل السائر" لابن الأثير، و"نقد الشعر" لابن قدامة وغيرها كثير. ثم ثنّى بالاطلاع على ما في الكتب الإنكليزية، فكان يعرض القاعدة أو المبدأ الذي صِيغ في هذه المصادر الغربيّة ثم يدلّل عَليها بأمثلة من الأدب العربي، لتكون أقربَ إلى ذوق القارئ الشرقيّ. ففي الباب الأول، تناول نظريّات النقد وعناصر الأدب من عاطفة ومعنًى وأسلوب وخيال، وتعرّض بعد ذلك إلى مفهوم الشعر والنثر والرواية، ثم إلى النقد، إلى جانب تطبيقات ونماذج توضيحيّة، ممّا يُضفي على الكتاب نزعة تعليميّة.
أمّا الجزء الثاني من الكتاب فخصّصه لتطوّر تاريخ النقد عند "الإفرنج" والعرب، وأهمّ المنعطفات المعرفيّة التي شهدها هذا الفنّ، كما تناول فيه نظريات النقاد مثل غراي وديدرو، ومدرسة سانت - بيف، وشيلر، وماكولي، وكارلايل، ورواد الكلاسيكية والرومانسية وغيرهم. وبعد ذلك أتى على تطوّر تاريخ النقد عند العرب منذ الجاهليّة والعصر الأموي فالعبّاسي حتى أيامه. وهكذا، تحوّل النقد على يديه إلى علمٍ منظم له قواعد وأصول، ولا سيما بعد أن اكتشف انطباق هذه القواعد على الأدب العربي، حيث كان عمله هذا أوّل درسٍ في مصر عن النقد الأدبي على النمط الحديث.
وقد عرض هذه النظريات الغربيّة في أسلوبٍ علمي واضحٍ، إلا أنه لم يَستَقصها من مصادرها الأصلية، بل من تَرجمات محمد النويهي، فكما هو معلوم، لم يكن الرّجل يتقن اللغات الأجنبيّة، وخصوصًا الفرنسيّة والألمانية والروسيّة التي كُتبت بها آنذاك جلّ النظريات الجديدة، فكان أن اعتَمَد ما شاع من جيّد التَرجمات من أجل عَرض وجهات النظر الغربيّة. ومع ذلك، اتهمَ عمله بالبساطة في التناول والعدد الكبير من الهفوات في الفهم والتأويل.
وأما المنهج الذي اتبعه فهو التاريخي-التطوّري مع أسلوب واضح ميّز كتابات أحمد أمين عمومًا، فقد زاوج فيه بين المنهج المِحوري، من حيث ذكر أهم موضوعات النقد الأدبي ومحاوره كالتخييل والأجناس واللغة والتراكيب والذوق ووظائف الأدب.. إلخ. ومن جهة ثانية، أتى على أهم المدارس والتيّارات حسب خطّيّة تصاعديّة، مراعيًا ما بينها من علاقاتٍ وتفريعات وما شهدته تلك الأطوار من قطائع. ولذلك يُعدّ الكتاب، في وقته، رصداً جيداً لأهم المدارس المعروفة، ولا سيما تلك التي ظهرت في القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين.
ولا شكّ أنّ هذا الكتاب، وما سبقه أو رافقه من محاولاتٍ نقديّة، بعضها نظري وجلّها تطبيقيّ أنجزها معاصروه مثل العقاد والمازني وطه حسين... يعدّ خطوة كبرى في تَبْيئَة هذا الفرع المعرفيّ وتَرسيخه في الثقافة العربية، بعدما اقتصرت تطبيقاته، طيلة قرون، على تلقٍّ ذاتي وانطباعي للشعر الذي كان جوهر الإنتاج الأدبي، أو اتسم بخمود تام، طيلة الفترة التي سبقت النهضة العربيّة.
ويظلّ السؤال قائمًا، بل حارقًا: ما مآل النقد الأدبي اليوم؟ ألم يَعد مقتصرًا على الصفحات الثقافيّة المُوجهة للجمهور العريض أو على الأعمال الجامعيّة شديدة التخصصّ، وكلاهما لا يخرج عن ممارسة للنقد، إما عَرَضيّة أو مجرّدة، مما لا يفيد المبدع مباشرةً ولا يغني القارئ. ألا يعاني هذا الفرع تبعيّة مُطلقة لما ينتَجه الغربيون من نظريّات وأبحاثٍ، حيث اقتصر عمل نقّادنا، ولاسيما في الجامعات، على تطبيقها بشيء من الانبهار، على النصوص العربيّة، عوض التنظير، وجلّها إسقاطاتٌ لا تفي بالغرض وقد تشوّه خصوصيّة نصوصنا، وإلا ما معنى أن نفهمَ نصوص المِسعدي أو مَحفوظ على ضوء ما قاله غريماس ورولان بارت؟
* كاتب وأكاديمي تونسي مقيم في باريس