وديع سعادة والتَّنقيب عن ظلال المعنى

05 ابريل 2024
+ الخط -

تقترح حركة الحداثة الشّعريّة في تأسيسِ خطابها الفنيّ استبعاد منطقيّة العلاقات بين الأشياء ومدلولاتها، لتعيين آليات الرّمز والإشارة، وزج النَّص في مغامرة الكشف، وخوض التّأويلات، مُؤسّسةً بذلك رؤاها، وحركتها الفنيّة الخاصّة.

لقد أعلنت التّجارب الكتابيّة لشعراء الحداثة دخولها طور الانتقال المرحلي للمنجز الفكريّ الشّعري، وذلك في محاولة إنتاج فضاءٍ رؤيويّ متجاوز لكلّ ما هو مألوف ومنطقي ومتعارف عليه في عالم الشّعر، فتمسّك أصحاب هذه التّجارب بحدسهم الشّعري، وخرجوا بنصوصهم من حدود المتداول والثّابت إلى أفق المتحوّل، في محاولة ابتكار عالمٍ جديدٍ، بلغةٍ شعريةٍ جديدةٍ.

هذا ما نلتمسه في شعريّة وديع سعادة التي تؤدّي حساسيّة جديدة تُوارب واقعها، فترى العالم بعينٍ ثالثةٍ، وبعدٍ خامس، مخضعةً العالم والأشياء والكلمات لمستوى اللذة والخلق الشّعري الحُرّ.

كتب وديع سعادة في قصيدته "بقليل من الحطب... بقليل من الدخان":

بقليلٍ من الحَطب

أُحيي الآن ذكرى الشّجر

ذكرى غاباتٍ كثيرةٍ نبتت في ذاك الماضي في رأسي

وكنتُ طيورها

وحَطّابها

والمشتعلين في موقدها.

 الحطب رمز النّهايات والمصير الواحد لكل أشياء العالم بفعل الزّمن المستمر.

إنَّ اعتماد اللغة ذات الطّبيعة الرّمزية الإشاريّة تشكّل إحدى مقاصد النَّص النَّثري في محاولة الإيماء إلى المقصود دون قوله، وترك مهمة تكوين ملامحه للمتلقّي الفعَّال، وفتح مجالات التَّأويل أمامه.

بقليل من الحطب المتبقّي في قلبي

أُشعل سيجارةً 

وأرى في دخانها رفاقي

الذين ماتوا سُكارى على الطُّرقات

الذين عبروا النَّهر بلحظةٍ واقتادوا اليباس في تجوالهم

كي يكون لهم رفيق. 

هكذا يختزل الشّاعر العالم بتناقضاته وفجاجته وجمالياته وأوهامه اللذيذة بلفافة تبغ: 

رفاقي

الذين في عيونهم طرقات 

وقطارات 

لا تتوقف في محطَّة

الذين تركوا المفاتيح في الدَّاخل وصفقوا الباب ومشوا.

 يمارس النَّص الحداثي عند سعادة براعة شعريّة في تحطيم القرائن المنطقيّة بشكل تقني ملفتٍ إذ إنَّ التّشكيل الحداثي للنص هو في أحد أطواره تحطيمٌ لقواعد المألوف، وإلغاءٌ للتجانس المنطقي بين دلالات القصيدة ومعانيها، وذلك ما يخلق نوعاً من الغموض الممتع عبر الغوص في الرّموز والتّأويلات الدّاعية إلى التّساؤل، وخلخلة الوعي الجمالي لدى المتلقّي.

إنَّ الرّموز والدّلالات المبثوثة في شعر سعادة تشكّل نصوصاً مفتوحة الأفق ليجد المتلقّي نفسه متورطاً بشكل ما في لغز القصيدة، والتنقيب عن ظلال المعنى.