تأنيث العلّة الأولى
تقلّدت أنثى الأرض في الفكر الميثولوجي القديم مركزيّة الوجود الكوني، وتمثّلت عرش الألوهة الأولى في الطّبيعة التي تحاكي أبعادها الخلّاقة، وكينونتها المانحة في بثّها أثير الحياة في روح المعطيات، لتكون الطّبيعة الصّامتة بمثابة المعادل الفنّي لماهيّة الأنثى الخالقة، والأم الكبرى للوجود، "فكما تتغذّى الحياة التي أطلقتها الأنثى من رحمها وعلى جسدها وفي أحضانها، وكما يعطي هذا الجسد حليباً ينبثق منه بشكل سحري معجز، وكما يهب هذا الجسد طفولة الإنسان دفئاً وأماناً وسكناً؛ كذلك هي الأم الكبرى، عنها انبثقت الحياة على المستوى الشّمولي وعليها تتغذّى وتستمر" (فراس السواح/ لغز عشتار)، وقد سمّيت إيزيس الأنثى ربّة الكون، ومبدأ النّفس، منها تصدر الأشياء وإليها تعود، فهي "أم الأشياء جميعاً، سيدة العناصر وبادئة العوالم، حاكمة من في السموات من فوق، وما في الجحيم من تحت، مركز القوة الرّبانيّة" (فراس السواح/ لغز عشتار)، هكذا تقول الخالقة الأسطورية، كاشفةً أسرار ماهيّتها، ومُطلق قدراتها.
وقد أدرك الفكر الإنساني عبر العصور هذه المكانة المتعالية للقطب الأنثوي على الأرض، بادئ الأمر من خلال رسائل الحجر المنحوتة، وجدران التّشكيلات الفنيّة للنيوليت الأوّل وهندساته المعماريّة في الحفر والترسيم، فتموضعت رموز الأم الكبرى، كما حدّدها الخيال النيوليتي بكيفياتٍ وأشكالٍ عدّة، فنراها "في هيئة أم حبلى، أو تضم إلى صدرها طفلها الرضيع، أو عارية الصدر تمسك ثدييها بكفيها في هيئة عطاء، أو ترفع بيدها باقةً من سنابل القمح، أو باسطة ذراعيها في وضع من يستعد لاحتواء العالم" كما يقول فراس السواح في "لغز عشتار".
واستمرّت أنثى الوجود تمثّل الغيب المجسّد، والقوى الرّبانيّة في حضورها، وأعلنت قدرتها على احتواء العالم، وبلوغ فحوى الميلاد والاستمراريّة، حتى الاتصال بمطلق الكون وملابسة الأبد، فكانت الغاية التي يسعى الرجل لبلوغ كماله من خلالها، ففي البدء خرجت من ضلعه ليكون ناقصاً إلّا بها "فعمر الله الموضع من آدم الذي خرجت منه حوّاء بالشهوة إليها، إذ لا يبقى في الوجود خلاء، فلما عمّره بالهواء حنّ إليها حنينه إلى نفسه" كما يقول ابن عربي في "الفتوحات المكية"، وبهذه الوحدة بين قطبي الوجود الأرضي، ينبثق شعاع الكمال بالتماهي الاثنيني، أوحد الغاية، صوب سماوات اللاهوت الأعلى، مشكّلين بتوحدهما المثنوي بالروح والجسد. قبلة الفردوس المشتهى، ومسرى اللذة المأهولة بمشاهد الكشف، ولحظة الخلود.
الأنثوي بين المعرفة الصّوفيّة وعوالم السّوريال، يجسّد حضور الخفاء في تجلياته المنبثقة من نشوة التماهي
كما نجد في المنظومة الميتافيزيقية القديمة، أنّ الأيروسيّة الأنثوية تحاكي كوكب القمر في الطّبيعة الكونيّة، حيث تتساوق الهوية البيولوجيّة والفيزيائيّة للمرأة مع حركة القمر الدّورية وتحوّلاته، و"لعل اقتران المرأة بالقمر له ما يبرّره في نظر الإنسان القديم، فكلاهما ينتميان إلى المبدأ السّالب في الطّبيعة والكون" (فراس السواح/ لغز عشتار).
فالأنثى قطب التّوازن الكوني، وصلة وصله، ومرآة عمقه المتكشّف بلاهوتيّة جسدها، ومجازاته الغيبيّة المتجاوزة حضورها المادي بأبعادها الخيميائيّة، وتجلّياتها الموناديّة، فتتقدم بأعضائها الجسمانية على تواقيت النّهايات، مترفعة عن كثافة المادّة، وأسر الشّهوة الدّنيا، ليكون بذلك جسد الأنثى جسر عبورٍ لنشوة اللذة، والوصول إلى أعتاب الفردوس، ليقرأ العاشق الطفل شموسه على نهد أنثاه الأم، والمحبوبة، والغواية المقدّسة، ويحصي أنفاسه الأخيرة على إيقاع تنهداتها وصبواته، حيث يسري الالتذاذ على خريطة الجسد كشعاع توحّد ببرهة فناءٍ لأجل البقاء، ليكون الحضور الأنثوي بدء الشهوة وختام الشهقة.
فالأنثوي بين المعرفة الصّوفيّة وعوالم السّوريال، يجسّد حضور الخفاء في تجلياته المنبثقة من نشوة التماهي، ووسيلة تحقيق الفناء في سرّ التوحد جسداً وروحاً، "فلا يفنى الإنسان في شيء يعشقه إلّا إذا كان هذا الشيء شبيهاً به، فإذا وقع التّجلي الإلهي في عين الصّورة التي خلق آدم عليها طابق المعنى، ووقع الالتذاذ بالكلّ، وسرت الشّهوة في جميع أجزاء الإنسان ظاهراً، ولذلك فمن عرف قدر النّساء وسرّهن، لم يزهد فيهن وفي حبهن، بل إن حبهنّ هو من كمال العارف، ذلك أنه ميراثٌ نبوي، وهو في ذلك حبٌّ إلهي، لأنّ حبنا للمرأة يقربنا من الله" كما يقول ابن عربي في فتوحاته المكية.
السّقوط دائماً من الثديين إلى ما تحت السّرة، فتواصليّة العمق مع المرأة تعمّد أفق المشاهدة بماء الأزل عبر جسد الأنثى، وجغرافيا حدوده المقدّسة، وتضاريسه الفردوسيّة، حيث تسري اللذة المخمورة في جسد الرجل لتنبئ بألوهية الحالة، ولتعمّد انتماءه على صدر الإله الأنثى.