البعد الروحاني لرمزيّة الخمر
"وقالوا شربتَ الإثمَ كلَّا وإنَّما
شربتُ التي في تركِها عندي الإثمُ
فلا عيشَ في الدُّنيا لمن عاش صاحيا
ومن لم يمت سُكراً بها فاتَه الحِزمُ".
(ابن الفارض/ سلطان العاشقين)
شكّلت رمزيّة الخمر عند المتصوّفة ورجالات العرفان حالةً تجريديّة تؤدّي المفارقة الكبرى عن معناها الحسّي القائم في الفكر العام، لتكون المعادل الرمزي لحالة النشوة الروحية، فالخمر بوصفه طقساً روحانياً لم يكن وليد زمنٍ مبكرٍ، إنّما له امتدادٌ تاريخيٌّ عميق، يصل حتّى تخوم الأساطير الموغلة في القدم. وقد اتخذت الخمرة حيّزاً وجودياً في الفكر الإغريقي القديم، "فالخمر كما تروي الأساطير القديمة قد عرفتها الإنسانية منذ نشأتها الأولى، ووصلت في بعض البيئات إلى حدّ التّقديس، حتّى إنّ اليونانيين جعلوا لها إلهاً، هو باخوس كما تصوّره الأساطير الإغريقيّة"، كما جاء في كتاب "اتجاهات الشعر العربي في القرن الثاني الهجري"، للكاتب مصطفى محمد هدارة.
وقد أعطت رمزية الخمرة مساحات لعبٍ لغويّ لخيالات الشّاعر، وجسر وصولٍ لعوالم مطلقة، كما اعتمد الصّوفي معيار التّساوق الكيفي ما بين سكرة الخمر ونشوة الفناء، ليكون الحب خمراً يغيب به العاشق كالمخمور عن نسبيّة الكون الأصغر في غاية اتحاده بالأكبر المطلق.
ألبس أهل العرفان الخمرة ظلّاً ذا أبعادٍ روحانيّة، بتضايف المادي منه إلى الوجداني الأعمق، وهو جوهر الفكرة العرفانيّة، وبهذه المضايفة اكتسبت رمزيّة الخمر في أشعارهم معاني الارتقاء، ومراتب الفناء، فكان الخمر شراب الرّوح، موقد لذّة الكشف، ومحفّز دهشة الوصل أمام مشاهد الذّات الرّبانيّة، وكشف الجماليات اللاهوتيّة.
ألبس أهل العرفان الخمرة ظلّاً ذا أبعادٍ روحانيّة، بتضايف المادي منه إلى الوجداني الأعمق، وهو جوهر الفكرة العرفانيّة
يعلن الصّوفي الخمر وسيلة وصولٍ واتصالٍ، ومسلك فناءٍ وغاية لقاءٍ بالكليّ، لتسري لذة السّكر، وتتحقق متعة الكشف، ويهزّ الرّوح ذهول الوصل، بعروجها السّرمدي صوب الأبد المتعالي عن كلّ ثباتٍ وجمود، كما في المنظور الفقهي القائم.
يذكر أدونيس في كتابه "مقدّمةً للشّعر العربي"، أنّ "المتصوّف يحيا في سكر، فيسكر بدوره العالم، وهذا السّكر نابعٌ من قدرته الكامنة على أن يكون هو والله واحداً، حتى صارت المعجزة تتحرّك بين يديه".
وقد طوّعت الصّوفيّة في أدبها (كغيرها من المذاهب الفنيّة) رمزيّة الخمر لوصف جانبٍ من جوانب تجربتها الباطنيّة، بعد تجريده من مدلولاته الحسيّة، ومعانيه الماديّة، وتوظيفه بهيئة تلتزم الكيفيّة الرّؤيويّة لرمزيّتها من قبل الصّوفيّة.
ضايف أقطاب المتصوّفة بين جوهر الخمر ومفهومه المجرّد، وبين الفيوضات الرّوحانيّة للجمال الإلهي، في شهودٍ يستنفر الحواس، ويوجّه الحدوس صوب سريان الألوهة المحايثة للتّجربة السكريّة "فالصّوفيّة في كلامهم عن الحب يعمدون في رمزهم إلى جانبٍ آخر هو جانب الخمريات، فهم يتكلمون عن الحبّ على أنّه شراب"، كما قال عبد الحكيم حسان في كتابه "التصوف في الشعر العربي".
رمزيّة الخمر في المنظومة العرفانيّة ترفّعت عن ماديات الزّوال إلى أبديّة الحالة، ولابست شعاع نورها اللدنّي، ونفدت لحقائق الغيب
لتقترن بذلك نشوة الحب الإلهي بنشوة الخمر، وكذلك بالفيوضات الإلهيّة والتّعينات التي تتجلّى في النّفس والكون، فتكون بذلك رمزيّة الخمر متساوقة مع بدء الوجود، وأزلية الواجد، متجاوزين بالخمرة الواقع الماديّ، وحدود المحسوسات إلى عوالم ميتافيزيقيّة، وأعماق وجدانية، فالخمر الصّوفي إشارةٌ الى حقائق الغيب، وتجلّي المطلق دون ستار، وكشفٌ لباطن النّفس النّورانيّة الفائضة بعلومها اللدنيّة، "وهذا ما جعل الحلّاج يقول: "ما في الجبة إلا الله"، وأبو اليزيد البسطامي يقول: "سبحاني ما أعظم شأني"، فتعدّدت الطّرق بتعدّد السّالكين، وهذا تأكيد لخصوبة التّجربة" (نصر حامد أبو زيد/ هكذا تكلم ابن عربي).
شربت أنا كلّ قلبٍ
شربت حتّى انتشيت
وقلت انجبل يا وجودي
وكن ما اشتهيت
هكذا تكون رمزيّة الخمر في المنظومة العرفانيّة قد ترفّعت عن ماديات الزّوال إلى أبديّة الحالة، ولابست شعاع نورها اللدنّي، ونفدت لحقائق الغيب، حيث تتبلور رمزيّة الخمر في منظومة الفكر العرفاني، وتجارب اللاوعي، من خلال حركةٍ مثنويّة الاتجاه: صوب العلو ونحو العمق، فيفنى المريد بحركة تصاعد، ويتسامى بروحه الطّليقة صوب مدارات المطلق، وفي ذات اللحظة، يمخر عباب ذاته، ويستجلي قواه الخلّاقة بعفويّة انبعاث، وبفوضى سرد، يشفّ عن شيفراته ويكشف أسراره ببراءة زرقاء.