هل يتعمّد صنّاع الدراما الإساءة لمهنةِ التعليم؟
صار من البديهيات ألّا يمرّ موسمٌ درامي رمضاني دون وجود مشادات واتهامات بالإساءة إلى مهنةِ التعليم تحديدًا؛ والمثير للاستغراب أنّ الأمور أضحت تَعرف ازديادًا ملفتًا، فبدل أن تؤثّر السجالات السابقة على هذه العلاقة "المتوترة" من الأساس، وبالتالي تتقلص حدّة الاشتباك، نرى أنّه يحدث العكس تمامًا. فعدد المسلسلات المتهمة باستهداف هذا المجال الحيوي والحسّاس يزداد كلّ عام، وتنتقل العدوى من بلدٍ إلى آخر، وهذا ما استوقفنا خلال السنة الحالية، صاحبة الرقم القياسي في الدعاوى التي تُطالب الجهات المختصة بالتدخل للجمِ ما يعتبرونه تطاولًا ممنهجًا على هذه المهنة؛ ومن هذا المنطلق نرصد عينةً من أكثر النماذج إثارةً للجدل خلال السباق الرمضاني الحالي.
"ولاد إيزة" من المغرب أول الغيث
شكلت السلسلة الكوميدية المغربية "ولاد إيزة" نقطة الانطلاق للصدام بين النقابات التعليمية ورجالها وصنّاع العمل الفني المتهم منذ الحلقة الأولى بالإساءة لرجال التعليم والنيل من كرامتهم؛ ليحتدمَ النقاشَ والجدلَ مبكرًا، وخاصة بعدما دخلت على الخط عدّة أطراف ومؤسسات دعت لإعادةِ الاعتبار للمهنة، لاسيما أنّ العام الحالي شهد سلسلة من المشاكل بين الوزارة الوصية على القطاع، وعرف أطول إضرابٍ عرفته البلاد، ولم ينقشع غباره إلا قبل فترة قصيرة.
المؤكد أنّ هذا المُعطى ساهم في تأجيجِ الخلاف، وكان من الطبيعي أن تتجه الأنظار صوب الموسم الرمضاني لمعرفة كيف سينعكس ذلك على محتواه. لكن يبقى السؤال: هل يستهدف صنّاع الدراما مجال التعليم ويتعمدون كيلَ الاتهامات له فعلا؟ ولماذا هذه الهوّة التي تكبر، يومًا بعد آخر، في جلّ الدول العربية؟ ولماذا يتكرّر النقاش في كلّ عام؟
"فلوجة" مستمر حتى إشعار آخر
هذه الأسئلة تقودنا إلى تونس الخضراء التي عرفت نقاشًا صاخبًا العام الماضي من خلال مسلسل "فلوجة" للمخرجة سوسن الجمني، والذي واصل أحداثه للموسم الثاني، وما زالت مشاكل المراهقين وعلاقتهم بالمؤطرين التربويين ونظرتهم للمؤسّسة التعليمية التي يدرسون بها على رأس مشاهد العمل الذي أضاف خطًا جديدًا يهم معاناة الأساتذة والتلاميذ في الريف التونسي.
ثمّة هوس مستشرٍ بالترند، ولو على حساب مهنة شريفة كالتعليم
والسؤال المطروح: هل ما وثقه مسلسل "فلوجة" من ترويج للمخدرات داخل المؤسسات التعليمية، والعلاقة المتوتّرة بين الأساتذة والتلاميذ، والعوالم الموازية التي يحياها هؤلاء.. هي من وحي خيال المؤلفتين سوسن الجمني وسندس عبد الرحمن فقط، أم أنّ ما يحدث داخل المؤسسات أكثر بشاعة؟
للكويت نصيب أيضاً
من المغرب العربي ننتقل إلى الخليج، حيث عمّت حالة من السخط عبر مواقع التواصل الاجتماعي في الكويت بعد بثّ حلقات مسلسل "زوجة واحدة لا تكفي" للكاتبة هبة مشاري حمادة، والمخرج علي العلي، وبطولة هدى حسين والمصري ماجد المصري وآخرون. والمؤكد أنّ العمل عرف شطحات لا تُعدّ ولا تحصى، اعتُبرت دخيلةً على المجتمع الكويتي، وأكثرها إثارةً للجدل كانت المؤسسة التعليمية التي تديرها بطلة المسلسل؛ وكأن مفتاح الوصول لـ"الترند" معلّق بباب التعليم، وهو الأقرب للتربّع على عرشه دون التدقيق في جدوى وواقعية ما يُطرح من مواضيع حسّاسة وخطيرة على غرار التنمر والابتزاز الإلكتروني والعلاقات المحرّمة، وغيرها من العناوين العريضة التي لا تصنع بالضرورة عملًا فنيًا ناجحًا متكاملًا.
يحيى الفخراني وحوار الأجيال
وللمحروسة مصر أيضًا نصيب من النقاش؛ حيث حاول الفنان يحيى الفخراني البحث عن التنوّع والعودة بقوة من خلال مواكبة التطوّر والعصر الجديد عبر مخاطبة الشباب والجيل الحالي، مستعينًا برواية إبراهيم عبد المجيد "عتبات البهجة"؛ لكن المضمون جاء بعيدًا كليًا عن سحر العمل الروائي ودخل المسلسل في خطِّ الحوار المباشر، الممل المكتنز بالمواعظ. كما بدت الخطوط الدرامية مهلهلة، وتشعر كأنّها محشوة بمواضيع مثل تجارة المخدرات وأزمة الدروس الخصوصية والنشاطات الإلكترونية المشبوهة لحفيدي الدكتور بهجت؛ ما حوّل المسلسل إلى عملٍ عاديٍ لا يليق بقامة بطله الذي استبشر الكثيرون خيرًا بعودته وفتحه لهذا الملف الشائك، لكن المعالجة جاءت سطحية للغاية.
ومن الواضح أنّ الجدل المثار كلّ عام صار يشجع الآخرين على المضي قدمًا في هذا الطريق، ليس لتوثيقِ وطرحِ قضايا واقعية تهم الطلاب والمراهقين، أو حتى الأساتذة، وإنّما للتبجّح بالنجاح المصطنع في ظلّ الهوس المستشري بالترند، ولو على حساب مهنة شريفة تلخصها أبيات الكبير أحمد شوقي:
قم للمعلم وفّه التبجيلا/ كادَ المعلم أن يكون رسولا.