هل علينا أن نتفاءل بكامالا هاريس؟
أخيراً، تنفّس الحزب الديمقراطي في أميركا الصعداء بعد أن تخفّف من عبءِ عثراتِ مرشّحه، الرئيس جو بايدن، وتمّ اقتراح كامالا هاريس بديلًا مُحتملًا عنه. على دونالد ترامب منذ الآن أن يغيّر من أسلوبه السّاخر، وأن يبحث عن طريقةٍ مُجدية ليواجهَ بها امرأة أصغر وأنضر وأكثر حيويّة. متفجّرة بالضحك والفرح والشباب، لا تتبع أيّة عقيدة، ولها (لسوء حظه) السِّمات ذاتها التي قضت مضجعه في السنوات الأخيرة: صلابة المدّعي العام مع مطرقةِ القاضيّة.
كامالا هاريس هي المرشّحة المُحتملة، والأوفر حظًا لتقودَ حزبها نحو الفوز بولايةٍ أخرى. وفي حال هزمتْ ترامب واتخذتْ من البيت الأبيض ذي المئة وسبعة وأربعين نافذة منزلها لأربع سنوات مقبلة، بما يتيح لها الإطلالة الكافية على قضايا العالم، ستجنّب الديمقراطية الأميركية، على الأقل، أخطر رجل قادر على تقويض أسسها من داخلها. كما وستعمل ما في وسعها، مع صعوبةِ الأمر وتعقيداته، على الحدِّ من طموحاتِ رجلٍ يميني متطرّفٍ آخر، هو رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو.
فالحزب الجمهوري الأميركي واليمين الإسرائيلي المتطرّف مرتبطان عقيديًا ودينيًا. كما أنّ القيادة الإسرائيلية الحالية في انسجامٍ تام مع الخطاب الشعبوي الذي يرفع شعاره ترامب في كلِّ ما يتعلّق بالقضايا الاجتماعيّة والسياسيّة وحتى الدوليّة. بينما هناك في صفوفِ بعض الديمقراطيين الأميركيين من ضاق ذرعًا من سياسة بنيامين نتنياهو وقيادته التي أجرمت كلّ هذا الإجرام الفظيع في حقِّ الفلسطينيين.
القيادة الإسرائيلية الحالية في انسجامٍ تام مع الخطاب الشعبوي الذي يرفع شعاره ترامب في كلِّ ما يتعلّق بالقضايا الاجتماعية والسياسية، وحتى الدولية
فقبل أيّام، وبعد لقائها رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، عبّرت كامالا هاريس عن هذا الضيق بعبارةٍ لاذعةٍ تشبه قرص الأذن، حين قالت بلهجةٍ أكثر حدّة: "أنا لن أصمت". لكن، ماذا تعني"أنا"؟ إنّها تعني وبلا شك، المرأة المحتملة لقيادة أميركا، ابنة القضاء والقانون. لكنها تعني في الأغلب الأعم صوت بعض الديمقراطيين الذي يريد أن ينفلت من الفلك السياسي الدائر حول التواطؤ مع جرائم إسرائيل المُخزية. هذا الحسّ الإنساني في بيان هاريس جرحَ كبرياء الإسرائيليين وأزعج نتنياهو. فأتى الردّ المتهكّم من وزير الأمن القومي لدولة الاحتلال، إيتمار بن غفير، في منشورٍ عبر منصّة إكس قائلاً: "لن يكون هناك وقف للحرب سيدتي المرشّحة".
تبلغ حدّة شدّ الحبل بين إسرائيل وبعض الديمقراطيين مع ظهور شخصية هاريس في مشهد السباق الرئاسي إلى البيت الأبيض، الشخصية التي بدأت تعبّر عن استقلاليتها وعقيدتها المختلفة عن بايدن، فهي من الجيل الذي شهد اتفاقية أوسلو، وأكثر ما تكرهه هو سياسة نتنياهو مُفرطة القوّة، وذلك ما دفعها إلى التعبير في كلّ مرّةٍ عن ضرورةِ التمييز بين الحكومة الإسرائيلية والشعب الإسرائيلي. هذا التعبير الواضح بدأ يستغلّه ترامب لمصلحة حملته، حيث وصف كامالا الجمعة الماضي بأنّها تكره اليهود وإسرائيل. وفي اجتماعه مع رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، في منتجع مارالاغو، تساءل: "كيف يمكن لشخص يهودي أو شخص يحب إسرائيل أن يصوّت للديمقراطيين".
ليست هناك أيّة مصلحة أميركية في مقاطعة القيادة الإسرائيلية الحالية ما دامت هذه الأخيرة في السلطة
لكن، ومع هذا الجفاء لسياسة إسرائيل، ليست هناك، لا على المدى القريب ولا البعيد، أيّة مصلحة أميركية في مقاطعة القيادة الإسرائيلية الحالية ما دامت هذه الأخيرة في السلطة؛ فالدعم الأميركي لإسرائيل كما نعلم، هو مسألة استراتيجية وعقيدة أميركية لا تتزعزع. كما أنّ الآلية الإسرائيلية لا تعمل في مسرح الجريمة بدباباتها وصواريخها فقط، بل وتحرّك دواليب السياسية الأميركية في العمق. إنّ كامالا هاريس في شجاعتها هذه، قد لا تعدو عن كونها نسخة مماثلة عن الرئيس الأسبق باراك أوباما الذي ألقى خطابًا مهمًا عن حقِّ الفلسطينيين في دولةٍ مستقلة، بل وبشكلٍ عملي جمّد الاستيطان خمسة أشهر كاملة، في ولايته الأولى، لكنّه خضع في الثانية لتوقيع أهم اتفاق استراتيجي بين إسرائيل وبلاده، والذي بموجبه جرى دعم إسرائيل بمبلغ 3.6 مليارات دولار كلّ عام لمدّة عشر سنوات.
ستكون وبلا شك ضغوط كبيرة من اللوبي الإسرائيلي، ومن نتنياهو تحديداً، على كامالا في حال فوزها. نتنياهو يعرف مكامن ضعف الرؤساء الديمقراطيين لأنّه تربى في كنف إيديولوجية اليمين الأميركي المحافظ، واستطاع بهذه التجربة مع المكر والدهاء والقوّة أن يلوي ذراع أيّ مرشحٍ أو رئيس ديمقراطي تزامن مع فترة حكمه. فهل ستصمد كامالا كما لم يحدث مع غيرها في حال فوزها بالانتخابات الرئاسية، خصوصاً وقد دخلت الحرب على غزّة بثقلها في المعادلة، أم ستبتلع زوبعة اللوبي اليهودي كامالا هاريس عند الانتخابات المقبلة خريف هذا العام، وتفتح بالدعم المالي والإعلامي وغيرهما لترامب البوابة العريضة إلى البيت الأبيض؟ هل يجب أن نتفاءل بكامالا هاريس، ونأمل بالدفع نحو حل الدولتين؟
لا نعرف كيف ستحدث الأمور، ولا على أيّ وجه من الأوجه، ولا أيّ ممكن من الممكنات، لكنّ جوابنا عن السؤال الأخير، تختصره عبارة سعد الله ونوس: "نحن محكومون بالأمل". ولنا، كما ينبغي، قدر من التفاؤل. لكنه ذلك التفاؤل الذي يُبقي (كما علّمتنا التجربة الواقعيّة) على الكثير، الكثير من الحذر.