كيف نحمي الديمقراطية من التوقعات الفلكيّة؟

09 يوليو 2024
+ الخط -

في العام 1848 انبثقت، وبعنفٍ، ثورة ليبرالية من فرنسا، ثمّ تدحرجت ككرةِ ثلجٍ إلى وسط وغرب أوروبا، فسميّت بربيع الشعوب. وفي غضونِ أسابيع أطاحت ملوكًا وأمراء إذ تداعت أمامها عروش فرنسا وبولندا والنمسا ورومانيا والأفلاق ومملكة المجر وشبه الجزيرة الإيطالية والإمارات الألمانية والدنمارك وأكثر من خمسين شعباً وبلداً. والسبب كان السخط العام على القيادات السياسية، مع المطالبة بنظامٍ ديمقراطي (والذي يعني في لغة الأربعينيات من القرن التاسع عشر حق تصويت الذكور) وبحريّةِ الفرد والصحافة وتقييد سلطة الكنيسة والدولة. لكن الكرة الهائلة سرعان ما تفكّكت وتشظّت في النهاية أمام صخرةِ الاستبداد. قد يرجع ذلك جزئيًا إلى افتقارها إلى التماسك، لكن أيضًا لأنّ القوى الاستبداديّة سحقتها بلا رحمة.

فقد ساعد الجيش البروسي في إخمادِ الحركاتِ الليبراليّة على الأراضي الألمانية، في حين أرسل القيصر الروسي قوّاته إلى ألمانيا والمجر. وبذلك خلّفت الثورة الديمقراطية المقموعة وراءها أسفًا عميقًا ودمًا مسفوكًا في شوارعِ أوروبا. بالقياس إلى عمرِ النظم الاستبداديّة والديكتاتوريّات، فإنّ الزّمن الذي عاشته الديمقراطية بيننا على هذا الكوكب حتى اليوم، لا يكاد يكون شيئًا على الإطلاق. كما لو أنّها تخضع لحساباتِ الأبراج والتقلباتِ الفلكيّة، فهي لا تتقدّم إلا لتتراجع. وبتعبيرٍ آخر، إنّها ليست حتمية كما اعتقد كثير من المؤرخين المعاصرين. لقد عرف التاريخ هذا التراجع العكسي والإخفاق مرّات عديدة، فكثيرًا ما أعقب الحكم الديمقراطي نظامٌ استبدادي جاء من أقصى التطرّف. 

أمامنا سنواتُ ما بعد الحربين العالميتين لنتأمل. فمن انتخاباتٍ ديمقراطيّةٍ نزيهةٍ، صعد موسوليني إلى السلطة في إيطاليا العام 1922، وأدّى نجاح الفاشية هناك إلى تعزيزِ حركاتٍ أخرى مماثلة على نطاق أوسع. فيما انهارت أنظمةٌ ديمقراطيةٌ أخرى بسبب الكسادِ الاقتصادي العالمي؛ جمهورية فايمار في ألمانيا تهاوت، وسقطت الديمقراطية في اليونان سنة 1936، وفي إسبانيا تحطّمت على يد الجنرال فرانكو، فيما أطاحت انقلابات عسكرية أخرى بحكوماتٍ ديمقراطية في كلّ من البرتغال والبرازيل وأوروغواي والأرجنتين... وغيرها. وبحلول العام 1939، كان قد تمّ الإجهاز تمامًا على المكاسب الديمقراطية التي تحقّقت خلال الأربعين سنة الماضية.

من صناديق الانتخابات الشفافة والنزيهة يصعد بسهولة من يقوّض الأسس التي بُنيت عليها أرقى أنواع أنظمة الحكم

من صناديق الانتخاباتِ الشفافة والنزيهة يصعد بسهولة من يقوّض الأسس التي بُنيت عليها أرقى أنواع أنظمة الحكم. والسبب غالبًا ما ندركه في هذه التفاصيل: حالة احتقان اجتماعي وكساد اقتصادي وحروب وما شابه، إضافة إلى انعدام التمثيلية الحقّة للشعب الذي يجد في الانتخاباتِ سببًا لمعاقبة الحكومات التي زرعت في نفسه اليأس والملل. ويمكن القول، وبواقعيّةٍ ملموسة، إنّ الحريّة والاستقلاليّة الفرديّة والمواطنة الكاملة وحقوق الإنسان، وفكرة الديمقراطية نفسها، لا تبدو أهم عند المجتمعاتِ في الأوقاتِ الاقتصاديّة الصعبة من الشعورِ بالأمان، والحماية والقوّة؛ والحاجة إلى من يدغدغ مشاعرها بالوعود ولو كانت مستحيلة، عبر خطابِ الانتماء إلى حلمٍ أكبر  يتجاوزهم كأفراد مثل حلم الدولة القويّة ومجد الأمة وفخر القوميّة الذي كثيرًا ما يضرب بروعةٍ لا تقاوم على طبل العنصريّة. ألم يكن هذا الخطاب هو الذراع القوية لموسوليني وهتلر على سبيل المثال؟ أليس هو كذلك اليوم في أجندةِ اليمين المتطرّف في أوروبا كما في سياق الكلام الشعبوي للمرشح الأميركي، دونالد ترامب، الذي يستعد لرئاسة أعتى الدول رسوخًا في الديمقراطية؟ فما الذي يمنع إذن، من أن يعيد التاريخ نفسه؟

لا شيء على الإطلاق، فملامح الواقع اليوم شبيهة بالأمس. وكما تُخبرنا التقارير، فإنّ الديمقراطيات في العالم في تراجعٍ مستمر. فبعد جائحة كوفيد، وفي خضم أزمة المناخ والحرب الروسية الأوكرانية والإبادة الوحشية لسكان غزّة، وبسبب التضخم الاقتصادي ضعفت سلطة القانون وقُيّدت حريّة التعبير وحريّة التجمّع، حتى في تلك الدول التي جعلت من الديمقراطية مسألة هُويّة. 

الديمقراطية لا تموت، لأنها أرقى أشكال الحكم، أخلاقيًا وفلسفيًا وسياسيًا، ولا بديل عنها أبدًا لمجتمعٍ يريدُ أن يعيشَ بكرامةٍ

ثمّة أسباب ومشكلات أيضًا، ساهمت في إضعافِ الديمقراطيات، منها غياب التمثيلية الحقيقية، وافتقاد الدول الغربية نفسها لشكل الحكم المترابط بسبب هيمنة الشركات الكبيرة واللاعبين في السوق والهيئات التكنوقراطية وغيرها. وهو ما يخلق الفجوة بين المواطن والسلطة.

إنّ حجم مهمة مقاومة هذا الانزلاق اليوم هائل. لقد أحسسنا بثقلها مع انتخاباتِ فرنسا في هذه الأيّام. كان الأمر أشبه بملحمةٍ لسدّ الطريق أمام اليمين المتطرّف. مهمّة شاقة وكبيرة لأنّ الخطر كبير أيضًا ومكلف جدًّا، بما يعني احتمال عودة بائسة بخطواتٍ إلى الوراء نحو الكراهية والعنصريّة والاستعباد، وليس بمعنى موت ونهاية الديمقراطية. فالديمقراطية لا تموت، لأنها أرقى أشكال الحكم، أخلاقيًا وفلسفيًا وسياسيًا، ولا بديل عنها أبدًا لمجتمع يريدُ أن يعيشَ بكرامةٍ. لكنها لا تزهر دائمًا في أيّ مكانٍ بسهولة، تلزمها أرض خصبة. وغالبًا ما تمرض بطموحاتِ السياسيين، كما لا يمكن الحفاظ عليها أحيانًا في الظروفِ الصعبة. إنّها هشّة، ككلِّ الأشياء الجميلة التي نحلم بها دائمًا أن تكون على مقاسِ الحقيقة.