بلد فولتير وفزّاعة اليمين المتطرّف
في هذا الطقسِ الرّبيعي الهادئ، وفي عددٍ من شوارع وساحات المدن الفرنسية، تُرفع شعارات المظاهرات السّاخطة ضدَّ التيّار اليميني المتطرّف. احتجاجٌ واسع يعمُّ فرنسا بأكملها على الأرض، وعلى صفحاتِ السوشل ميديا، وعلى كلّ المنصات المُتاحة. وثمّة تحذير ممّا قد تُسفر عنه الانتخابات التشريعية المبكرة التي ستُجرى في الثلاثين من هذا الشهر، وفي السابع من يوليو/ تموز المقبل.
حركاتٌ غاضبة ومستاءة، هي بمثابة صرخة أخيرة بدافعِ الخوف من خسارةِ فرنسا التي نعرف، وانزلاقها إلى هاويةِ التطرّف والعنصرية والانغلاق؛ مع فقدانها مكانتها المشرّفة في المعادلة الدولية وكقاطرة في الاتحاد الأوروبي. تلك المظاهرات هي بعض من ارتداداتِ الزلزال القويّ الذي فجّره الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، بقراره المفاجئ حين اتخذ موقفاً سريعاً في ردّه بحلّ الجمعية الوطنية عقب صعود اليمين المتطرّف في الانتخابات البرلمانية الأوروبية. لا أحد يعرف حتى الآن ما مدى صواب هذا الفعل؟ وما الذي كان يدور في رأسِ ماكرون حين ضغطَ على هذا الزرّ ليقوّضَ الهيكل السياسي برمّته؛ فاتحاً فرنسا على كلّ الاحتمالات الممكنة؟ لكنّنا مهما تأملنا وحاولنا تفسير الأمر، يبدو لنا على وجه واحد في كلّ مرّة: إنّها مقامرة. بل مجازفة خطيرة بمستقبلِ البلاد.
قد نلمسُ شيئًا انفعاليًا في هذا القرار، وكأنّ ماكرون يردّ الصدمة إلى أهلها؛ أي إلى أولئك الذين صوّتوا لمصلحة التطرّف، علّهم يدركون فداحةَ ما أقدموا عليه. وربّما هي دعوة إلى معركةٍ إيضاحيةٍ للمواطنين وتحسيسيةٍ بالخطرِ المُحتمل.
رأي غاضب يقول: "إنّ إيمانويل ماكرون العاجز وقليل الحيلة قد بسط بهذا الفعل السجادة الحمراء لليمين المتطرف الذي يقترب من السلطة. وقفز خطأ بالزمن إلى المستقبل حيث الكارثة". فيما تفسيرٌ مغالٍ في تفاؤله، عبّر عنه بعض الخبراء السياسيين: "لقد تعمّد هذه المسألة في تخطيط ميكيافيلي، حيث أراد أن يدفع باليمين المتطرف إلى الحكم بسلطة رئيس الوزراء حتى يفقد شعبيته قبل الانتخابات الرئاسية عام 2027".
إنّ الشارع الفرنسي يائس جدّاً ومُحبط من سياسة الرئيس الداخلية، والتي أسهمت ولا شك في بروزِ اليمين بهذا الشكل المتنامي
لكن مع كلّ تلك الافتراضات تبقى الارتدادات والتداعيات أكثر أهمية من الزلزال نفسه، فما حدث قد حدث ولا يمكن التراجع عنه بأيّ حال. ورغم أنّ ضيق الوقت لا يسمح بالقيام بالتنظيم، وفي غياب أيّة حملة حقيقية، وهو ما يُشبِّهه البعض بلعب الروليت الروسية بمصير البلاد، فإنّ الواقع السياسيّ على أرضيةِ الحركة الانتخابية يغيّر ملامحه بسرعةٍ كبيرة. فبعد يومين فقط على دعوة الرئيس إلى هذه الانتخابات البرلمانية المبكرة، انفرط حزب "الجمهوريين" اليميني الذي كان ديغوليًا جمهورياً. فيما يضع تحالف اليسار تحت ما يسمّى "الجبهة الشعبية" التي تضم أربعة أحزاب: (حزب فرنسا الأبية، الحزب الاشتراكي، حزب الخضر، والحزب الشيوعي) نفسه كدرعٍ دفاعي أمام زحف حزب التجمّع اليميني المتطرّف بقيادة زعيمته، مارين لوبان، ومرشحه، جوردان بارديلا، والذي يشكل الآن قوّة كبيرة في المشهد السياسي الفرنسي دون أدنى شك. أمّا حزب الرئيس الفرنسي، أي حزب "النهضة"، فقد وجد نفسه خارج قواعد هذه اللعبة. كما يصعب توقّع أيّ تأثير له في هذه المعادلة مستقبلًا، رغم كلّ محاولات الرئيس اليائسة في أن يظهر بمظهر القائد المُنقذ للأمّة من هذه الأزمة.
لقد انفلتتْ زمام الأمور من يد ماكرون، وأصبح متفرّجاً وعاجزاً؛ فالقبضة اليوم على مقبضِ الدفة هي بيد جهتين متصارعتين: الجبهة الشعبية التي تمثل أقصى اليسار الراديكالي، وحزب التجمع من أقصى اليمين "فزّاعة التطرّف"، والذي يملك القوّة، والمُرجّح للهيمنة، وقيادة السفينة.
من المحتمل أنّ الجبهة الشعبية بأحزابها الأربعة المتحالفة قادرة على تجنيب البلاد سوء الطالع هذا الذي يخافه الفرنسيون المتعقّلُون؛ لكنّها تظل تحالفاً ضعيفاً قابلًا للتفكّك في أيّة لحظة، نظراً للخلافات التي تبدو أحياناً عميقة، وربّما جذرية. إلّا أنّ مصلحة فرنسا والكره الشديد للمتطرّفين اليمينيين بوسعهما أيضاً في لحظةِ إيمانٍ وطني صادق ومسؤوليةٍ تاريخية أن يعيدا فرنسا إلى رشدها. لكن عن أيّة فرنسا نتحدّث؟ بالقطع ليست هي فرنسا إيمانويل ماكرون.
لقد وقع هذا الأخير كرئيس للدولة في أخطاءٍ يصعب غفرانها. بعض الشعارات في مظاهرات هذه الأيّام ردّدت بصوتٍ مجروح: "لا ماكرون ولا بارديلا". إنّ الشارع الفرنسي يائس جدّاً ومُحبط من سياسة الرئيس الداخلية، والتي أسهمت ولا شك في بروزِ اليمين بهذا الشكل المتنامي، وبهذه القوّة المفاجئة.
فالشيء الذي أخفق فيه إيمانويل ماكرون (وقد كانت ردّة هذا الإخفاق واضحة في مظاهرات السترات الصفراء وإضراب العمال ضدّ خطة إصلاح معاشات التقاعد، إضافة إلى ارتفاع أسعار الوقود وتكاليف المعيشة وتزايد في معدل البطالة وعدم الشعور بالأمان) استغله حزب مارين لوبان بوعودٍ عريضة تحمل آمال كلّ فرنسي يتطلّع إلى الأمان والاطمئنان إلى المستقبل. من ذلك إلغاء إصلاح نظام التقاعد وضريبة القيمة المضافة على الغاز، مقابل زيادة الإنفاق العام إضافة إلى التصدّي لغولِ الهجرة.
صحيح أنّ الجبهة الشعبية لا تختلف في وعودها عن حزب التجمّع اليميني المتطرّف في كسرِ الطوق الاقتصادي الذي يعيشه المواطن الفرنسي، وهو ما يرى فيها ماكرون ودائرته وعوداً غير معقولة من كلا الطرفين، ستعودُ بالكارثة على البلاد بسبب خطط الإنفاق الضخمة. إلّا أنّ لمبادئ الجبهة الشعبية فضائل عدّة أهمها الانفتاح على مسألة المناخ وموقف بعض زعمائها الإيجابي من الهجرة، والأهم من ذلك كلّه قطع الطريق على اليمين المتطرف.
كلّ تلك المقترحات والبدائل والصيغ لا أعتقد أنهّا تهمّ كثيرا فئة عريضة من المواطنين، وخاصة الشباب منهم الذين سيمنحون أصواتهم قريباً، متأثرين على الأغلب بخطب وصورة بارديلا على حسابه في منصّة "تيك توك"، وهو المرشح الرئاسي لليمين المتطرّف البالغ من العمر 28 سنة.
لكن يبقى ثمّة أمل في تحقيق مسعى الجبهة الشعبية، أمل ضئيلٌ جدّاً. لكنّه وحده، يظل الأمل.