نابوليون بلاد الفرس

19 مايو 2022
+ الخط -

في الوقت الذي كانت فيه القارة الأوروبية تنهض من كبوتها وتنفض غبار ماضيها المظلم، وتجوب أساطيلها البحار والمحيطات شرقاً وغرباً، كان العالم الإسلامي في الوقت ذاته يعيش مرحلة أفول وصراعات وحروب لا تنتهي بين الدول الإسلامية الكبرى، كالدولة العثمانية مترامية الأطراف في البلقان والمشرق العربي وشمال أفريقيا، والدولة الصفوية التي قاربت شمسها على الغروب في بلاد فارس (إيران).

سقوط الدولة الصفوية

وفي خضم لهيب هذا الصراع تمكن أحد القادة الأفغان ويدعى (مير ويس هوتاك) من انتزاع البر الأفغاني من الصفويين وطردهم، مؤسساً بذلك الدولة الهوتاكية في أفغانستان عام 1709م، إلا أن الهوتاكين لم يقتنعوا بأفغانستان بل طمعوا بانتزاع بلاد فارس (إيران) من الصفويين، فاجتاح (محمود شاه) ثالث السلاطين الأفغان بجيشه عام 1722م، وتمكن من هزيمة الشاه الصفوي (حسين الأول) وحاصر عاصمته أصفهان.

أمام وطأة الحصار واقتراب سقوط أصفهان سارع (حسين الأول) إلى التنازل عن الحكم لولده الشاه (طهماسب الثاني)، الذي نجح بدوره في الفرار من مدينة أصفهان في محاولة منه لتحشيد المقاطعات الإيرانية لفك الحصار الأفغاني، إلا أن طول الحصار وموت ما يقارب 80 ألف شخص أثناء الحصار جوعاً، أجبر (حسين الأول) على تسليم أصفهان وتنازل عن العرش واعترف بـ(محمود الأول) شاهاً على بلاد فارس (إيران).

وبعد وفاة (محمود شاه) عام 1725م قام خليفته (أشرف شاه) بقتل (حسين الأول) عام 1726م، بسبب غارات ولده (طهماسب الثاني) الذي أسس دولة موازية في تبريز. وأمام تدهور الأوضاع في بلاد فارس، تقدم العثمانيون فاستولوا على المقاطعات الشمالية الغربية كأذربيجان وجورجيا وأرمينيا، بينما استولى الروس بقيادة بطرس الأكبر على بلاد داغستان وسواحل بحر الخزر الغربية.

نادر شاه

وفي ظل الفوضى التي تعيشها بلاد فارس ظهر على مسرح الأحداث رجل يدعى (نادر شاه)، والذي يعد واحداً من أكبر الفاتحين في تاريخ إيران الحديث، ويصفه المؤرخون بـ(نابوليون بلاد الفرس) و(الإسكندر الثاني)، إذ بدأ نادر شاه حياته كقاطع طريق، ثم رأى من مصلحته العمل كقائد عسكري لصالح (طهماسب الثاني)، فتمكن انطلاقا من مدينة مشهد في فترة قصيرة من طرد الأفغان من بلاد فارس، وهزم العثمانيين والروس وردهم عن حدود إيران الشمالية الغربية (أذربيجان، جورجيا، أرمينيا، دغستان).

بعد انقشاع غبار المعركة أمر نادر شاه بقطع رأس طوبال باشا ثم أمر بجمع الرأس المقطوع مع الجسد، وأعاده إلى بغداد، وذلك تقديراً للرجل الوحيد الذي انتصر عليه في كل حياته العسكرية

هنا شعر (طهماسب الثاني) بالغيرة الشديدة من تزايد شعبية نادر شاه في بلاد فارس، فاستغل توجه نادر شاه شرقاً لمحاربة الأفغان في عقر دارهم، وقرر عام 1731م إعداد حملة عسكرية لغزو أرمينيا لاستعادتها من العثمانيين منفرداً، وما أن وصلت الأخبار للعثمانيين حتى أعدوا حملتين عسكريتين بقيادة كل من القائد (حكيم أوغلو باشا) انطلاقا من إسطنبول، ووالي العراق القوي (أحمد باشا) انطلاقا من بغداد.

فاكتسح الجيشان العثمانيان الأراضي الفارسية وتوغلوا في أقاليمها، فاستولى أحمد باشا على الأقاليم الغربية ككرمنشاه وهمدان، بينما تمكن حكيم أوغلو باشا من الانتصار على طهماسب الثاني في أرمينيا، فاضطر (طهماسب الثاني) تحت وطأة الهزيمة إلى طلب الصلح من العثمانيين الذين وافقوا، فوقعت معاهدة عرفت بمعاهدة (أحمد باشا) التي تنازل فيها طهماسب الثاني عن كل المقاطعات الشمالية الغربية التي كان قد استعادها نادر شاه من العثمانيين في وقت سابق.

معركة سامراء

ما أن علم نادر شاه بالهزيمة حتى استشاط غضباً لضياع كل ما أنجزه ضد العثمانيين في الأقاليم الشمالية الغربية، فعاد مسرعاً وخلع الشاه طهماسب الثاني بالقوة، ووضع بدلاً منه ابنه الرضيع (عباس الثالث)، ذو 8 شهور فقط، ثم أعلن نادر شاه عدم موافقته على المعاهدة المبرمة مع العثمانيين.

وانتقاما من العثمانيين قرر نادر فور انقلابه على طهماسب الثاني أن يوجه ضربة قاتلة للعثمانيين في العراق، فتوجه فور إعداد جيشيه إلى عاصمة أحمد باشا بغداد ليرد الصاع صاعين، ونظراً لضخامة جيش نادر شاه الذي قدر بـ100 ألف مقاتل، قرر أحمد باشا التحصن داخل بغداد، وأرسل على وجه السرعة يطلب المدد من العثمانيين في إسطنبول.

وصل نادر شاه إلى مشارف بغداد في بداية عام 1733م وفرض عليها حصاراً مشدداً، وبنى حوالي ألفين وسبعمائة برج بغية الاستلاء عليها بسرعة، إلا أن مقاومة أحمد باشا البطولية سمحت للمدينة بالصمود، حتى وصل جيش الإنقاذ العثماني الذي قدر بـ80 ألف مقاتل بقيادة الصدر الأعظم طوبال عثمان باشا في يوليو/ تموز 1733م.

ما أن علم نادر شاه بوصول الجيش العثماني لمشارف العراق حتى ترك 12 ألف مقاتل لمواصلة حصار بغداد، وتوجه ببقية جيشه لملاقاة (طوبال عثمان باشا) شمالًا قرب سامراء، وفعلاً التقى الجيشان في صبيحة 19 يوليو/ تموز عام 1733م، ورغم التفوق العددي لجيش نادر شاه، إلا أن قواته التي أبدت تفوقاً في بداية المعركة سرعان ما انهارت بعد وصول 20 ألفًا من قوات الاحتياط العثمانية.

وقد ساهمت شائعات بمقتل نادر شاه أثناء المعركة بتحلل جيشه وفراره في كل اتجاه، وقد بلغت خسائر قوات نادر شاه ما يقارب 30 ألف مقاتل، بينما خسر العثمانيون 20 ألف مقاتل، وتعتبر موقعة سامراء هي الموقعة الوحيدة التي تجرع بها نادر شاه مرارة الهزيمة في كل تاريخه العسكري الممتد من عام 1726م إلى عام 1747م.

معركة كركوك

رغم قساوة الهزيمة إلا أن نادر شاه لم يرض بها، وتمكن من إعادة جمع شمل شتات جيشه في غضون 3 شهور فقط، وعاد مسرعاً إلى العراق للانتقام من طوبال باشا لهزيمة سامراء، فدارت قرب مدينة كركوك معركة مهولة بين الطرفين، تمكن خلالها نادر شاه من إحداث اختراق في صفوف القوات العثمانية، وحينما بدا أن الهزيمة واقعة لا محالة بالقوات العثمانية، نصح كبار قادة الجيش العثماني طوبال عثمان باشا بالانسحاب إلى سامراء للنجاة على الأقل بنفسه، إلا أن طوبال عثمان باشا أبى القبول بالهزيمة، وفي محاولة منه لقلب نتائج المعركة لصالحه قام باختراق صفوف قوات نادر شاه مع فرقة من جيشه، فتَلَقَّى طوبال باشا طلقتين قاتلتين في رأسه فسقط من فوق جواده قتيلاً.

بعد انقشاع غبار المعركة أمر نادر شاه بقطع رأس طوبال باشا ثم أمر بجمع الرأس المقطوع مع الجسد، وأعاده إلى بغداد، وذلك تقديراً للرجل الوحيد الذي انتصر عليه في كل حياته العسكرية. وعلى الرغم من أن بغداد أصبحت بحكم الساقطة لا محالة بعد معركة كركوك، إلا أن تمرداً داخلياً في إقليمي فارس وخوزستان أرغما نادر على العودة بجيشه فوراً لبلاد فارس دون السيطرة على بغداد.

أجبر العثمانيون بعد هزيمة كركوك على توقيع معاهدة إسطنبول في 24 سبتمبر/ أيلول 1736م، التي تنازلت بموجبها عن كل مقاطعاتها حول بحر القوقاز (جورجيا، وأرمينيا، وأذربيجان)، والاعتراف بنادر شاه شاهًا على إيران.

ثم حاول نادر شاه إدخال تعديل على معاهدة إسطنبول طالباً من الدولة العثمانية الاعتراف بالمذهب الجعفري كمذهب خامس في الإسلام، فرفضت الدولة العثمانية ممثلة بشيخ الإسلام، فأعلن نادر شاه الحرب على العثمانيين، فاخترق العراق بـ200 ألف مقاتل واستولى على كركوك وأربيل وحاصر الموصل في 14 سبتمبر 1743م لمدة 40 يوما، إلا أن الحاج حسين آل جليلي نجح في الصمود أمام حصار نادر شاه الشاه.

في أوائل عام 1744 استأنف نادر شاه هجومه على الدولة العثمانية من جهة حدودها الشرقية بغية إجبارها على الاعتراف بالمذهب الجعفري، فهزم الجيش العثماني في معركة قارص عام 1745م. ورغم انتصارات نادر شاه المتتالية على الدولة العثمانية، إلا أنه جنح نحو سلم معها عام 1746م، وبذلك انتهت الحرب بين الطرفين، وتنازل نادر شاه عن مطالبته بالاعتراف بالمذهب الجعفري.

4F8E0C37-3F8E-44E8-B648-FE320CF4039B
هيثم الجرو

مدون وقاص فلسطيني حاصل على شهادة في التاريخ والآثار من الجامعة الإسلامية بغزة، يحضّر رسالة الماجستير في التاريخ المعاصر بجامعة "إسطنبول مدينيت" في تركيا.