ثورة بنو غانية... من النهضة إلى الكبوة
بدأت الإرهاصات الأولى لظهور ثورة بنو غانية التي استمرت ما يقارب نصف قرن ضد دولة الموحدين، عندما انضم جدهم علي بن يوسف المسوفي إلى حركة المرابطين بقيادة يوسف بن تاشفين، فأصبح خلال فترة قصيرة أحد قادة دولتهم، فزوجه يوسف بن تاشفين من قريبة له تدعى غانية، فأنجب منها ولداً يدعى محمد، الذي تدرج في مناصب الدولة حتى أصبح والياً على الجزائر الشرقية (جزر البليار).
وفي الطرف المقابل للجزائر الشرقية ظهر رجل يدعى محمد بن تومرت، تحديداً عام 1118م، وادعى أنه المهدي المنتظر، فتمكن في فترة قصيرة من تأسيس حركة تسمى بحركة الموحدين الذين كانوا يدعون إلى توحيد الله توحيداً قاطعاً، ما جعلهم ينكرون أسماء الله الحسنى باعتبارها أسماء لصفات مادية، وهو الحق سبحانه ليس كمثله شيء فكانوا يذكرون الله باسمه المفرد الله.
وعندما رفضت دولة المرابطين أفكار محمد بن تومرت جملة وتفصيلاً، كفرهم وأعلن الحرب عليها، واتخذ من قلعة تنمل في قلب جبال الأطلس قاعدة له ولأتباعه، وبعد وفاته حمل لواء الدعوة أحد أتباعه الذي يدعى عبد المؤمن الكومي، فاستطاع بعد معارك شرسة مع المرابطين هزيمتهم، وقضى على وجود دولة المرابطين بعد دخول عاصمتهم مراكش وتدميرها عام 1146م، ومن ثم استولى على كامل الشمال الأفريقي من ليبيا وتونس حتى المغرب الأقصى عام 1160م، ومن ثم صعد إلى الأندلس واستطاع تصفية الوجود المرابطي هناك بشكل كامل.
وحينما تمكن الموحدون من فرض سيطرتهم على الأندلس أرسلوا في عام 1183 يطلبون من إسحاق بنو غانية الذي خلف أبيه محمد بنو غانية في حكم الجزائر الشرقية للدخول في طاعتهم، وهنا لم يتمكن إسحاق بنو غانية من حسم الأمر، لاختلاف أفراد عائلته بشأن الدخول في الطاعة من عدمها، فخرج في غزوة إلى قطلونية (برشلونة) واستشهد هناك، فخلفه أحد أبنائه، ويدعى محمد بنو غانية، فأبدى هذا الأمير استعداده للدخول في طاعة الموحدين، إلا أن إخوته عاجلوه فعزل وتولى بدلاً منه أخوه علي بنو غانية.
بعد استيلاء الموحدين على الجزائر الشرقية توجه الناصر إلى المغرب الأوسط للقضاء على يحيى بنو غانية، فالتقيا في منطقة تسمى رأس التاجرا، وتمكن من هزيمة يحيى بنو غانية
اندلاع ثورة بنو غانية
وفي الوقت الذي كانت دولة الموحدين تعد العدة لغزو الجزائر الشرقية، قتل الخليفة الموحدي يوسف بن عبد المؤمن في معركة شنترين بالأندلس عام 1184م، فتلكأ رجالات دولة الموحدين في مبايعة ابنه أبو يوسف يعقوب الملقب بالمنصور بالله، فاستغل بنو حماد في المغرب الأوسط (الجزائر) تلكؤ الموحدين في اختيار خليفة لدولتهم، وأرسلوا إلى بنو غانية يدعونهم للتقدم للاستيلاء على بجاية ويعدونهم بالمؤازرة.
فاستجاب بنو غانية وسيروا أسطولاً بحرياً من نحو 40 سفينة بقيادة علي بنو غانية إلى مدينة بجاية، وتمكنوا بمؤازرة من بنو حماد من الاستيلاء عليها بسهولة، ثم سرعان ما لبثوا أن اجتاحوا مدن المغرب الأوسط كمدينة الجزائر ومليانة وحاصروا تلمسان وقسنطينة بعدما لامسوا ضعف قوة الموحدين في تلك النواحي.
وأمام إعصار بنو غانية أعد المنصور بالله حملة عسكرية من 12 ألفا، واستطاع استرجاع المغرب الأوسط حتى بلغ مدينة بجاية، فحاصرها سبعة أشهر حتى سقطت عام 1185م، ومن ثم لاحق فلول بنو غانية الذين فرو وتحصنوا في بلاد الجريد (الجنوب التونسي).
الثورة في قمة عنفوانها
بوصولهم، أي بنو غانية، لبلاد الجريد أخذوا يحرضون القبائل العربية الموجودة هناك على الثورة ضد دولة الموحدين، ومن وهنا بدأ فصل جديد في ثورة بنو غانية بانحرافها إلى السلب والنهب للحصول على الأموال لتمويل حروبهم ولدفع أجور القبائل العربية التي تقاتل إلى جانبهم، ومنهم أعراب بنو هلال الذين جنحوا بموافقة بنو غانية للنهب والسلب والإغارة على المدن المغربية الموحدية.
وإلى جانب بنو هلال، وفد إلى بلاد المغرب وافد جديد هو شرف الدين قراقوش، أحد رجال صلاح الدين في مصر، إذ أرسله صلاح الدين بحملة عسكرية لناحية ليبيا للاستيلاء عليها حتى لا يتقدم الموحدون إلى مصر، وهنا تحالف شرف الدين قراقوش مع علي بن بنو غانية ضد دولة الموحدين، ما زاد من بأس وقوة ومنعة بنو غانية في ثورتهم ضد الموحدين، إذ تمكنا معا من الاستيلاء على معظم المدن التي فقدها علي بنو غانية في السابق.
فجرد المنصور بالله حملة عسكرية بـ20 ألف مقاتل، وأرسلها نحو المغرب الأوسط والأدنى، حيث معاقل بنو غانية وشرف الدين قراقوش وحلفائهم، إلا أن بنو غانية تمكنوا من هزيمة الجيش الموحدي شر هزيمة في معركة فحص عمرة عام 1186م، وما إن علم المنصور بالله بخبر الهزيمة حتى استشاط غضباً، وجهز حملة عسكرية ضخمة وقادها بنفسه.
بدأها أولاً بالتنكيل بالأعراب المتحالفين مع بنو غانية فمزقهم شر ممزق، ثم استطاع هزيمة علي بن غانية وحليفه شرف الدين قراقوش في 15 أكتوبر/ تشرين الأول عام 1187م، ففر علي بنو غانية من المعركة وهو مثخن بالجراح فلجأ إلى خيمة عجوز أعرابية في الصحراء وتوفي عندها متأثرا بجراحه.
وفي خضم الصراع الواقع في المغرب في الفترة الواقعة بين عامي 1189/ 1190م وصلت الحملة الصليبية الثالثة بقيادة ريتشارد قلب الأسد لسواحل الشام، فطلب صلاح الدين من شرف الدين قراقوش أن يكف يده عن الموحدين، وأرسل إلى المنصور بالله يطلب منه المؤازرة في حروبه ضد الصليبيين إلا أن المنصور بالله لم يستجب له.
بعد مقتل علي بن غانية تولى قيادة الثورة أخوه يحيى بنو غانية، إلا أنه واجه منافسا جديدا له في المغرب الأوسط عام 1199م، هو محمد ابن عبد الكريم الرجراج الذي تمرد على دولة الموحدين، وتمكن خلال فترة قصيرة من الاستلاء على مساحات شاسعة من المغرب الأوسط، إلا أن يحيى بنو غانية تمكن من هزيمته عام 597هـ/1200م، وبعدها استولى على طرابلس، وقابس، وصفاقس، وسائر المغرب الأدنى (تونس).
وبعد استيلاء يحيى بنو غانية على المغرب الأدنى والأوسط توجه للقضاء على شرف الدين قراقوش الذي كان قد هادن الخليفة أبو يوسف يعقوب المنصور بالله في وقت سابق، فحاصره في حصن يسمى محسن في منطقة ودان (جنوب ليبيا)، فما أن استسلم شرف الدين قراقوش تحت وطأة الحصار حتى ضرب يحيى بنو غانية عنقه في عام 1212م.
سقوط الجزائر الشرقية
وأمام توسع يحيى بنو غانية في بلاد المغرب قرر الخليفة الموحدي الناصر الذي خلف المنصور بالله إعداد حملة بحرية ضخمة للقضاء على بنو غانية في معقلهم في الجزائر الشرقية، فانطلق الأسطول الموحدي من ثغر دانية في الأندلس واشتبك مع بنو غانية في معقلهم في الجزائر الشرقية، فاستمات عبد لله بنو غانية والي الجزيرة في الدفاع عن جزيرته، إلا أنه وبينما كان يقاتل سقط عن فرسه فتمكن أحد فرسان الموحدين من قتله، وكانت النتيجة في النهاية هزيمة بنو غانية وسقوط معقلهم، وقد قطع الموحدون رأس عبد الله وعلقوه في مدخل مدينة مراكش، العاصمة الموحدية.
بعد استيلاء الموحدين على الجزائر الشرقية توجه الناصر إلى المغرب الأوسط للقضاء على يحيى بنو غانية، فالتقيا في منطقة تسمى رأس التاجرا، وتمكن من هزيمة يحيى بنو غانية هزيمة شنعاء هذه المرة، ومع أن يحيى بنو غانية استطاع النجاة بحياته إلا أن الكثير من أتباعه قتلوا.
ورغم الهزائم التي مني بها يحيى بنو غانية إلا أنه لم يمل، فحاول استغلال هزيمة الناصر في معركة العقاب في 16 يوليو/ تموز 1212م، لكن والي المغرب الأدنى (تونس) الشيخ أبو محمد وولده من بعد الشيخ أبا زكريا كانوا له بالمرصاد. وفي النهاية توفي يحيى بنو غانية وحيدا شريدا في مكان مجهول في الصحراء، ويرجح أن وفاته كانت بين عامي (1233 - 1235م)، ويقال إنه عندما أيقن بقرب ساعته بعث ببناته إلى الشيخ أبا زكريا ورجاه أن يكفلهما بعد موته.