ثورة الأناضول الكبرى... من التذمر إلى الثورة

16 يونيو 2022
+ الخط -

تعد الدولة العثمانية من أكبر الدول الإسلامية على الإطلاق، ولا يضاهيها بالقوة والمنعة سوى الدولة العباسية التي عمرت ما يقارب 500 عام، فقد تمكن العثمانيون بقيادة السلطان محمد الفاتح من فتح القسطنطينية عام 1453م، ومن ثم انطلقوا فافتتحوا أجزاء واسعة وشاسعة من قارات أوروبا وآسيا وأفريقيا في آن واحد، وعمرت دولتهم ما يقارب 661 عاما، وقد تولى عرشها 36 سلطانا من سلالة واحدة.

ورغم كل هذه الهالة والقوة والمنعة، إلا أن الدولة العثمانية، مثلها مثل كل الإمبراطوريات على مر العصور، واجهت عددا لا حصر له من الانتفاضات والثورات والتمردات، وعلى رأسها ثورة الأناضول الكبرى أو ما عرفت في المصادر التركية بـ(الثورة الجلالية)، التي اندلعت في منطقة الأناضول ذات الأهمية الجيوسياسية بالنسبة للعثمانيين، فكادت هذه الثورة، التي عمرت عشرات السنين، أن تعصف وتهدد كيان الدولة العثمانية وتسقطها.

ثورة الأناضول الكبرى أو الثورة الجلالية

الثورة الجلالية أو تمردات جلالي بالتركية: (Celali isyanları) هي عبارة عن سلسلة من الانتفاضات والثورات والتمردات التي اندلعت في منطقة الأناضول (تركيا) في أواخر القرن السادس عشر وأوائل القرن السابع عشر، بقيادة عدد من قطاع الطرق واللصوص والهاربين من الخدمة العسكرية والمسؤولين المحليين ضد سلطة الحاكم في إسطنبول وقتها.

بدأت الإرهاصات الأولى لثورة الجلالية في عهد السلطان العثماني سليم الأول بالقرب من (توقات أو توكات)، (وهي إحدى مدن شمال تركية) بقيادة رجل دين علوي يدعى الشيخ جلال، حيث التف حوله عدد من الفلاحين الذين اضطروا لترك أراضيهم بسبب الضرائب الباهظة التي فرضتها الدولة، إلى جانب عوام الناس الذين فروا هم كذلك من اضطهادات الإدارة المحلية لهم في الأناضول.

وما إن أعلن الشيخ جلال تمرده على الدولة العثمانية عام 1519 حتى سارع السلطان سليم الأول إلى قمع ثورته بشكل دموي وقاس في نفس العام، ومن وقتها استخدام اسم (جلال) مصطلحاً عاماً للتعبير عن أي تمرد أو عصيان يقع في منطقة الأناضول ضد الدولة العثمانية.

من التذمر إلى الثورة

في أواخر القرن السادس عشر، تعرضت الدولة العثمانية إلى كساد كبير أثر على كل مناحي الحياة فيها (اقتصاديا - اجتماعيا - سياسيا)، بسبب إغلاق الهولنديون والبريطانيون، ضمن حربهم ضد الدولة العثمانية، طرق التجارة الدولية العابرة عبر الشرق الأوسط، ما ساهم في تراجع عائدات الضرائب التي كانت تفرضها الدولة العثمانية على التجارة العابرة أراضيها.

ومن جانب آخر، أدى توقف الفتوحات العثمانية في أوروبا إلى تراجع عائدات الغنائم التي كانت في وقت سابق تشكل عصب الاقتصاد العثماني، ما دفع الدولة إلى زيادة الضرائب بشكل حاد ومجحف على الفلاحين في الأناضول لصالح ملء خزينتها، التي بدأت تأن جراء الأوضاع الاقتصادية الاستثنائية.

وقد ساهمت قلة الأموال والمواد لدى خزينة الدولة في انخفاض رواتب موظفي ومسؤولي الدولة كـ(الإنكشارية - حرس المدن - جامعي الضرائب - المسؤولين المحليين)، الذين عملوا على تعويض خسائرهم من جيوب الفلاحين وعوام الناس، من خلال مصادرة الأملاك والسطو والإفراط في زيادة الضرائب.

وانعكست الأزمة الاقتصادية التي تعيشها الدولة العثمانية على كل طبقات المجتمع العثماني دون استثناء، كـ(المحاربين - الملاك - الحرفيين - الصناع - التجار - طلاب العلم)، وأدى عدم قدرة الدولة على الإيفاء بالتزاماتها إلى تذمر المجتمع العثماني ووقوعه فريسة للفقر والبطالة، فهجر الفلاحون العاطلون مزارعهم وأراضيهم وتوجهوا إلى المدن، ما أثر على الإمدادات الغذائية التي كانت توفرها المناطق الريفية، وكذلك دفعت قلة الإمدادات الغذائية ولاة المدن إلى رفض استقبال الأعداد الضخمة من الفلاحين.

أمام استفحال الثورات الجالية وخروجها عن السيطرة قررت الدولة العثمانية القضاء عليها مهما كلف الثمن، فجرد الصدر الأعظم (مراد باشا القويوجي) حملة عسكرية كبيرة وقادها بنفسه في عام 1606

وأمام تفاقم الأزمة الاقتصادية وعجز الدولة عن الإيفاء بالتزاماتها في عهد كل من مراد الثالث (1574 - 1595) ومحمد الرابع (1595 - 1603) وأحمد الأول (1603 - 1617)، رد الفلاحون وعوام الناس الغاضبون بالانتفاض ضد الدولة، ومن هنا بدأت تتشكل عصابات متمردة من قطاع الطرق الذين أطلق عليهم (الثورة الجلالية أو تمردات جلالي).

ومع انضمام أعداد غفيرة من الفلاحين والعاطلين عن العمل إلى عصابات المتمردين، فقدت الدولة سيطرتها على أجزاء شاسعة من أراضي الأناضول، على أثر قطع هؤلاء المتمردين الإمدادات الغذائية واللوجستية عن المدن الكبرى، واستيلائهم على عدد كبير من القلاع والحصون والمدن.

وفي ظل الفوضى والنهب وعدم قدرة عوام الناس على التمييز بين موظفي الدولة الذين يجمعون الضرائب وبين المحتالين من قطاع الطرق والمتمردين، أصدرت الدولة من مقرها في إسطنبول مراسيم تطالب القرويين وسكان المدن بحمل السلاح ضد عمليات النهب والسلب والسطو، كما أرسلت الدولة من جانبها عددا من الحملات العسكرية لقمع الانتفاضات والتمردات المختلفة في أراضي الأناضول، إلا أن كل محاولات الدولة لقمع الفوضى والتمردات باءت بالفشل بسبب استشرائها في عموم الأناضول.

ثورة أو حركة قره يازيجي عام 1598: يعتبر قره يازيجي بالتركية؛ (karayazici) بمعنى الكاتب الأسود، من أكثر قادة الثورة الجلالية شهرة وشكيمة، وتعد حركته من كبرى حركات الجلالية التي سخرت الدولة كل إمكانياتها لقمعها، بدأت ثورته ضد الدولة عندما تم تعيين وكيل جديد لسنجق (ولاية) سيواس بدلاً منه، فرفض قرة يازيجي تسليم السنجق للوكيل الجديد، فدخل الاثنان في صراع انتهى بمقتل الوكيل الجديد.

بعد هذه الحادثة، تحديداً في يوليو/ تموز عام 1598، أعلن قره يازيجي تمرده ضد الدولة العثمانية في منطقة سهل (جوبوق) قرب أنقرة، وانضمت إلى حركته أعداد غفيرة من العاطلين عن العمل والفلاحين التركمان والمحكومين بالإعدام والفارين من الخدمة العسكرية، وأمام استفحال أمره، كلفت الدولة أحد قادتها ويدعى (حسين باشا) بالقضاء على تمرد قرة يازيجي، إلا أنه بسبب عدم حزم حسين باشا وتساهله مع حركة قره يازيجي تم القبض عليه وسجنه.

لكن حسين باشا تمكن من الفرار من سجنه في قلعة أماسية وانضم إلى حركة قرة يازيجي، وبحكم خبرة المنشق حسين باشا العسكرية، تمكن قرة يازيجي من الاستيلاء على قلعة أورفا وهزيمة كل الحملات العسكرية التي سعت لقمع ثورته، وهذه الانتصارات دفعت قرة يازيجي ليعلن نفسه سلطانا على الأناضول ولقب نفسه بـ(المظفر حليم شاه) وعين حسين باشا صدرا أعظم لدولته.

هنا شعرت الدولة العثمانية بالقلق مع وجود متمرد قد ينافس السلطان في إسطنبول على السلطنة، فجردت حملة عسكرية بقيادة قائد يدعى (محمد باشا) لقمع حركة قرة يازيجي، وبالفعل تمكن محمد باشا من هزيمة قرة يازيجي ومحاصرته في قلعة أورفا عاما ونصف عام، إلا أنه لم يحرز أي تقدم ضده.

ولما طال الحصار وأدرك محمد باشا عدم قدرته على الاستيلاء على قلعة أورفا رغم كل الدعم الذي قدمته الدولة، عرض على قرة يازيجي تعيينه على سنجق أماسية وتسليم حسين باشا مقابل فك الحصار، في البداية رفض قرة يازيجي تسليم صدره الأعظم، إلا أنه أمام وطأة الحصار وانتشار الموت والجوع في قلعة أورفا، وافق، وبالفعل تم تسليم حسين باشا الذي أرسل إلى إسطنبول، فتم تكسير يديه ورجليه، ثم حمل على بغل وطيف به في أزقة إسطنبول، ثم أعدم وعلقت جثته على أحد أبوابها.

ولكن لم تمر سنوات على تعيبن قرة يازيجي على سنجق أماسية حتى عاد وتمرد على الدولة، فجردت الدولة حملتين عسكريتين، الأولى بقيادة والي بغداد (حسن باشا صوقللو)، والثانية بقيادة قائد يدعى (إبراهيم باشا) الذي انطلق من إسطنبول، فتمكن الاثنان معا من هزيمة قرة يازبجي شر هزيمة قرب قيصري، ففر قرة يازيجي إلى سيواس ثم التجأ إلى جبال جانيق التي توفي فيها عام 1601.

إلا أن حركة قرة يازيجي لم تنته بوفاته، إذ قاد أخوه (ديلي حسن)، بمعنى المجنون، جموع المتمردين ضد الدولة، وأمام فشل الدولة في قمع هذا التمرد الجديد، عرضت على ديلي حسن أن يصبح واليا على البوسنة مقابل إنهاء تمرده، فوافق، وقد شارك ديلي حسن ورجاله ببسالة مع القوات العثمانية في حروبها ضد المتمردين الأوروبيين في ولاية البوسنة حتى وفاته.

القضاء على ثورة الجلالية

ورغم انتهاء الدولة من حركة قرة يازيجي وأخيه ديلي حسن، فإن تمردات الجلالية لم تنته، فقد ظهر قادة جدد من المتمردين ما بين عامي (1603 – 1608)، وانتشرت ثوراتهم في جميع أراضي الأناضول، وعلى أثرها فرغت القرى والمدن من ساكنيها الذين غادروها واحتموا بالجبال والمدن والقلاع والحصون المحمية من قبل الدولة، عُرف هذا الحدث في التاريخ العثماني باسم (الهروب الكبير).

وأمام استفحال الثورات الجلالية وخروجها عن السيطرة، قررت الدولة العثمانية القضاء عليها مهما كلف الثمن، فجرد الصدر الأعظم (مراد باشا القويوجي) حملة عسكرية كبيرة وقادها بنفسه في عام 1606، وتمكن من سحق ثورة الجلالية بوحشية ومن دون أي رحمة، حتى إنه ملأ الآبار بجثثهم، واستمرت حملته حتى عام 1610، وقدرت أعداد القتلى خلال حملة مراد باشا القويوجي بحوالي 65 ألف قتيل.

ورغم اندلاع عدد من التمردات هنا وهناك في الأناضول بعد حملة مراد باشا القويوجي، إلا أنها لم تكن ذات تأثير كبير كسابقاتها، إذ غيرت الدولة سياستها تجاه المتمردين عن طريق استقطابهم وإغرائهم وتحييدهم حتى يتسنى لها القضاء على التمردات الأخرى، ورغم مرور أربعة قرون على اندلاع ثورة الجلالية، إلا أن مصطلح، أو كلمة، (جلال) بقي في التراث والموروث التركي مرادفاً لكلمة (قطاع الطرق).

4F8E0C37-3F8E-44E8-B648-FE320CF4039B
هيثم الجرو

مدون وقاص فلسطيني حاصل على شهادة في التاريخ والآثار من الجامعة الإسلامية بغزة، يحضّر رسالة الماجستير في التاريخ المعاصر بجامعة "إسطنبول مدينيت" في تركيا.