من وحي أمّي.. عن غزّة وأهلها الصامدين
في زمنٍ تتلاشى فيه الحدود بين الألم والأمل، تنبثق قصصٌ لا تُنسى من ركامِ الحروبِ والصراعات. قصتي اليوم مستوحاة من أمّي، وهي امرأةٍ غزّاوية تشبه مدينتها، أظهرت لي وللعالم معنى الصمود والتفاؤل في أحلكِ الظروف. هذه القصة ليست فقط تسجيلاً لمعاناةِ الناس، بل هي تذكيرٌ بأنّ روحَ النضال والثبات تُزهر حتى في أقسى البيئات.
تُحدّثني أمي، بعد عودتها إلى مكانِ نزوحها الأخير في غزّة، عن فترةٍ مروّعة حينما اجتاحت قوات الاحتلال مجمع الشفاء الطبي، وهو الملجأ الأخير للعديدِ من النازحين. خلال هذا الاجتياح، شهد المستشفى أعمالَ قتلٍ واعتقالات جماعية في عملية حصار وقصف دامت أسبوعين، والتي دارت على مسمعِ ومرأى من العالم أجمع إلّا أنّه لم يحرّك ساكنًا رغم بشاعتها وفظاعتها. ومع ذلك، تحدّثت أمي عن إرادةِ أهل غزّة القوية وحبّهم للحياة، والتي لا يستطيع أيّ احتلال أن يقتلعها من قلوبهم.
وما إن انسحبت قوات الاحتلال، حتى عاد الناس إلى الشوارع مجدّدًا، يملؤونها بأصواتِهم وخطاهم، متلمّسين رزقهم في كلّ زاوية. هذه العودة السريعة إلى الحياةِ اليومية ليست دليلاً على النسيان، بل هي شهادة على القوة والعزيمة والأمل الذي يحمله أهل غزّة في قلوبهم.
على الرغم من الدمار الذي تشهده المدينة، فإنّ الحياة في غزّة تبقى متقدة كنوعٍ وشكلٍ من أشكالِ التحدّي. يعود الأطفال إلى اللعب في الشوارع، ويفتح الباعة عرباتهم بما تبقى من بضاعتهم ليؤمّن أهل غزّة القليل من احتياجاتهم، في محاولةٍ لاستعادةِ بعض أشكال الحياة رغم أنف المحتل الذي يسعى لقتلها. هذا التحدّي للظروف والإصرار على الحياة يعكس روح الأمل التي لا تموت في قلوبِ أهل غزّة.
التحدّي للظروف والإصرار على الحياة يعكس روح الأمل التي لا تموت في قلوب أهل غزّة
أمي، بروايتها، تُطلعنا على الجانب الأصيل والعميق لأهل غّزة. إنّهم ليسوا مجرّد أرقام في تقاريرِ الأخبار، بل هم أفراد يمتلكون القدرة على الحب، والحلم، والإبداع، حتى في مواجهة الدمار الشامل. قصة أمي هي تذكير بأنّه، في ظلّ الصراع والاضطهاد، يمكن للإنسان أن يظهر أعظم درجات الصمود والقوة. إنّها تعلمنا، أنّه مهما كانت الظروف قاسية، هناك دائمًا مكان للأمل والتفاؤل.
في النهاية، هذه ليست مجرّد قصة تُروى عن البقاء والصمود في وجهِ الظلم، بل هي دعوة للعالم للنظر إلى غزّة بعيونٍ جديدة. يجب أن يُرى أهلها كأبطالٍ في قصّةٍ إنسانيةٍ تتحدّى كلّ يومٍ الإحتلال الغاشم بروحٍ لا تُكسر، وليس كضحايا. تُعلّمنا أيضا أنّ الأمل، مهما كان ضئيلاً، هو مفتاح الفرج، هذه الصورة التي أحملها في قلبي عن غزّة، والتي تُخبرني بها أمي يجب أن تصل للعالم أجمع، فنحن شعبٌ نحبّ الحياةَ ما استطعنا إلها سبيلًا وليس لغاصبٍ أو محتلٍ أن يمنعنا عنها أو يمنعها عنّا.