بلسانِ أمّي... نزوحٌ تلو نزوح
تقولُ أمي في كلّ نزوحٍ، يُولد داخلنا شعورٌ غريب. فعند وصولنا إلى المكان الجديد، نمرّ بمرحلةٍ من الحزن والارتباك. يومان أو ثلاثة، أسبوع كامل، ونحن نذرف الدموع خوفاً من المجهول. أين نحن؟ هل هذا هو قدرنا؟ تساؤلات لا تنتهي، وكأنّها لا تجد الإجابة الشافية في قلوبنا المرتجفة.
في البداية، يبدو لنا المكان وكأنّه عالم آخر، غريب، مخيف. نتساءل: كيف يمكننا التأقلم مع هذه البيئة الجديدة، وكيف سنستطيع بناء حياة جديدة من الصفر. كلّ ما كان مألوفاً لنا في غزّة، من أحياء وشوارع وجيران، أصبح فجأة ذكريات بعيدة نحملها في قلوبنا المثقلة بالهموم.
مع مرورِ الأيام، نبدأ بالتعوّد على المكان الجديد. نشتري الأغراض التي نحتاجها، ونبدأ ببناءِ حياتنا من جديد. الجيران الجدد يصبحون أصدقاء، وأحياناً نصنعُ علاقات أسرية جديدة. شيئاً فشيئاً، يصبح المكان الجديد مألوفاً ونشعرُ بالانتماء إليه. نتوقف عن الخوف، ونتعلّم كيف نعيش ونتأقلم.
تبدأ رحلةُ النزوح من جديد، ومعها تعودُ الدموع والتساؤلات والمخاوف
إلا أنّ هذه الفترة من الاستقرار لا تدوم طويلاً. فجأة، نجد أنفسنا مضطرين لترك كلّ شيء وراءنا مرّة أخرى. كلّ ما بنيناه من علاقاتٍ وأشياء ماديّة، يصبح عبئاً علينا ونحن نتحرّك بحثاً عن مكانٍ جديد. تبدأ رحلةُ النزوح من جديد، ومعها تعودُ الدموع والتساؤلات والمخاوف.
في غزّة، العديد من العائلات تجد نفسها في مراكز الإيواء والخيم، حيث تكون الحياة أصعب وأقلّ استقراراً. ومن حالفه الحظ، يتمكن من إيجادِ منزلٍ وسقفٍ يحميه وأسرته. لكن حتى هؤلاء، يعيشون في قلقٍ دائم، خوفاً من أن يضطروا للنزوح مرّة أخرى، أو من أن يُقصف المنزل فوق رؤوسهم، فيهربون من قدرهم إلى قدرهم.
إنّ شعورَ النزوح والانتقال من مكانٍ إلى آخر هو شعور مؤلم للغاية. إنّه وجع يتغلغل في أعماق النفس، يتجاوز الكلمات، ولا يمكن التعبير عنه بسهولة. هذا الشعور لا ينتهي، بل يتجدّد مع كلِّ نزوحٍ جديد.
إنّه شعور يتجدّد مع كلِّ خطوة نخطوها نحو المجهول. نحمل ذكرياتنا وآمالنا معنا، ونأمل أن نجد مكاناً آمناً نستطيع أن نعيش فيه بسلام. ونحن نعلمُ أنّ أماكننا التي خلت، بيوتنا، حقولنا، أصدقاؤنا، وجوه ألفناها... هي ما نبقى نحِنُّ إليه. ففي النزوح نظلّ نواجه المجهول، نحاول أن نتغلّب على مخاوفنا، ونتعلّم كيف نتعايشُ مع الألم.
في النزوح نظلّ نواجه المجهول، نحاول أن نتغلّب على مخاوفنا، ونتعلّم كيف نتعايشُ مع الألم
في كلّ مرّةٍ نضطر فيها للرحيل، نكتشفُ جوانب جديدة من دواخلنا، وأنفسنا التي نجهل، ونصبح أكثر قدرة على التأقلم، وأقوى في مواجهةِ الصعاب. نتعلّم كيف نبتسم رغم الألم، وكيف نعيش رغم التحدّيات. كما أنّ نزوحنا من مكانٍ إلى آخر يعلّمنا كيف نكون أقوى، وكيف نجد السعادة في أبسط الأشياء، وكيف نجد الألفة في وجوهٍ تشبهنا وتحمل نفس همّنا.
عندما نصل إلى المكان الجديد، نبدأ ببناءِ حياتنا من جديد. نتعرّف إلى أصدقاء جدد، ونتعلّم كيف نحبّ المكان ونرتبط به. نتعلّم كيف نصنع منازل جديدة من الأمل، وكيف نزرعُ الأملَ في قلوبنا وقلوبِ من حولنا، ورغم كلّ الصعاب نجد دائماً طريقة لنكون سعداء ونعيش بسلام في أبسط الممكن أو حتى من اللاشيء، فقط لأنّنا على يقينٍ بفرجٍ ونصرٍ قريب.
لكن الحنين يغلبنا ويجتاحنا في كثيرٍ من الأوقات، بل يقصفنا أيضاً، فنصبح أشلاء ممزقة بين الماضي القريب والحاضر الذي نعيش، نحنّ إلى المكان الذي تركناه خلفنا: البيت، المدرسة أو الجامعة... تسكننا الأماكن الفارغة والمهدّمة، ويسكننا الماضي/ الحاضر. إنّه الشوق لا محالة.
النزوح يترك في داخلنا جروحاً لا تلتئم بسهولة. نتعلّم كيف نكون أقوى، ليس اختياراً بل اختباراً. نتعلّم أيضاً كيف نتأقلم مع يوميّات الحرب كأنّها سنوات. هذه الحرب التي تشكل لنا المجهول والمعروف، حيث نجهل مصيرنا ونعرفه في آن. النزوح هو الاختبار الكبير والأصعب في الحرب، ليس لشحِّ المسكن والمأكل والمشرب فحسب، بل أيضاً لأنّه يوجّهنا نحو ذواتنا التي نجهلها.