من حكايات الاستبداد القديمة

26 سبتمبر 2017
+ الخط -
مُنيت ناحية معرة مصرين التابعة لولاية حلب، في الأربعينيات من القرن الماضي، بشخصين مستبدين، الأول اسمه عبد الرحمن أفندي، وهو شرطي بلدية لديه وسواس دائم في إيذاء الناس، وبالأخص الذين يُحسنون إليه، وبطرق إيذاء فنية مستحدثة، حتى تَحَوَّلَ إلى أسطورة في الإيذاء تُحاك حولها القصص والحكايات والمبالغات.

كان عبد الرحمن أفندي يمشي في سوقَي البلدة، البراني والجواني، ويوزع سلاماته وابتساماته على الناس، فيقفون له مثل اللام ألف، ويردون سلامه بأحسن منه، وابتسامته بأعرض منها، وهم يقولون في سرائرهم: 

- يا لطيف! يا حامى الحمى! اللهم اصرف عنا البلاء.

وذات مرة، كان رجلٌ من أهل البلدة، يدعى أبو أحمد، مهنتُه صناعة البرادع للحمير، جالساً داخل دكانه في فترة الاستراحة بين العصر والمغرب، يحزِّزُ جَبَسة (بطيخة حمراء) ويقشرها استعداداً لتناولها، وإذ دخل عليه عبد الرحمن أفندي، وعزم نفسه إلى تناول الجَبَس قائلاً:

- لنا نصيب أن نشاركك في جَبستك يا أبو أحمد.

فرد عليه أبو أحمد: على راسي وعيني، يحصل لنا الشرف.

شرع عبد الرحمن أفندي يأكل، ويرمي قشور الجبس إلى خارج الدكان بطريقة لا مبالية، فاعترض عليه أبو أحمد قائلاً، إن هذا الأمر مخالف للنظام، فقال عبد الرحمن: 

- أعرفُ أنه مخالف للنظام يا أبو أحمد، ولكن مَن هو المسؤول عن تطبيق النظام في البلدة؟ أنا طبعاً. هل يوجد غيري؟ وهل يعقل أن أكتب بحقك مخالفة، أنت الذي أحسنتَ ضيافتي، وأنا الذي رميتُ قشور الجبسة إلى الخارج بنفسي؟

وبمجرد ما انتهى من تناول آخر حز من الجبسة، طلب من أبي أحمد أن يصب الماء على يديه ليغسلهما، ففعل، ثم مسح فمه من الدبق، وخرج إلى الشارع، وفتح حقيبته وأخرج منها دفتر الضبوط، وشرع يكتب مخالفة بحق أبي أحمد البرادعي، موضوعها: رمي قشور الجبس في الشارع!

وأما المستبد الثاني الذي منيت به البلدة، فهو نهاد بيك مدير الناحية الذي يمثل السلطة الأكثر تسلطاً واستبداداً في البلدة، وكان لديه هوس خاص بالتجسس على بيوت المواطنين ليلاً، وفي اليوم التالي كان يستدعي الأشخاص الذين تجسس عليهم إلى مكتبه، ويفاجئهم بأنه يعرف أدق التفاصيل عن حياتهم ومناقشاتهم وآرائهم، وحتى ما يدور بين الزوجين من همس في غرف النوم.

وكانوا يحتارون بمصادر أخباره، فيشك الجار بجاره، والأخ بأخيه، والزوج بزوجته، وأحياناً يصل الأمر بهم إلى الشجار والعداء والطلاق، وكان هذا أحلى على قلب نهاد بيك من العسل.

وذات مرة ضبطوه وهو يتجسس، فافتضح أمره، ولكنه بقي مرهوباً ترتعد الفرائص من كيده وبطشه ومقدرته العجيبة على التَبَلِّي واختراع التهم الكاذبة.. إلى أن جاء يوم، علق مع المولدة (الداية) أم محمد.

استدعاها إلى مكتبه وقال لها ما معناه، إنها لا تمتلك شهادة توليد قانونية، وإنها ممنوعة من العمل في التوليد تحت طائلة المسؤولية. فلما لاحظ أنها غير مبالية بتحذيراته قال لها: إياك أن تخالفي أوامري، فأنا نهاد بيك وأنت وأهل بلدتك تعرفونني جيداً.

ولئلا يتراجع نهاد بيك عن تهديداته فقد أمضى تلك الليلة قريباً من منزل أم محمد، يراقبه من بعيد، وإذا بولد يأتي مسرعاً ويدق عليها الباب، ويبلغها أن أمه قد دب فيها الطلق، ولا بد من ذهابها إلى منزلهم في العجل.

نظرت أم محمد في عمق الشارع فوجدت سيارة نهاد بيك متوقفة تراقب المنزل، فقالت للولد:

- خذ كرسي التوليد واسبقني إلى داركم.

وبعد أن غادر الولد، أخرجت من داخل المنزل قضيباً طويلاً، ثبتته بباب الدار، وربطت في آخره حذاءً عتيقاً (صرماية)، جعلتها تتدلى إلى الأسفل، وذهبت، على مرأى من نهاد بيك، لتمارس مهنتها المباركة في إخراج الأجنة إلى النور!   

دلالات
خطيب بدلة
خطيب بدلة
قاص وسيناريست وصحفي سوري، له 22 كتاباً مطبوعاً وأعمال تلفزيونية وإذاعية عديدة؛ المشرف على مدوّنة " إمتاع ومؤانسة"... كما يعرف بنفسه: كاتب عادي، يسعى، منذ أربعين عاماً، أن يكتسب شيئاً من الأهمية. أصدر، لأجل ذلك كتباً، وألف تمثيليات تلفزيونية وإذاعية، وكتب المئات من المقالات الصحفية، دون جدوى...