عروس لأبو جويّد زَقْط لَقْط
استأنفنا، أنا وصديقي أبو سعيد، خلال اتصاله بي البارحة، استعراضَ سيرة صديقنا الطيب، الفقير، المنحوس، المرح، أبو جويد، وقصة زواجه العاثر، التي تحولت إلى سيرة لا تنتهي.
قلت:
- مع مرور الزمن، تحول أبو جويّد وأبو سليمان الطوط إلى ثنائي كوميدي بالغ الطرافة. ذات يوم، أعطاني أبو جويد فكرة مبهرة. قال لي: لو أنني اهتديت، في تلك الأيام، إلى بنت حلال، وخطبتُها، وهي رضيتْ بي، وبفقري، وبشحاري، وتزوجنا، هل تعتقد أن أبو سليمان الطوط سيكون مسروراً؟
- سيكون مسروراً بالطبع. أليس هو الذي كان يلاحقك ليلاً نهاراً من أجل أن يزوجك؟
- بلى، ولكن البحث عن عروس لي، من كثرة الأخذ والرد والمماحكة، أصبح، بالنسبة إليه، هدفاً بحد ذاته، وتسلية، يعني إذا أنا تزوجت، بأيش بده يحكي ويتسلى؟
ضحكت وقلت له: يعني على قولة المثل (الزلمة عاملك تسلاية).
عندما وصلتُ بحديثي إلى هذه النقطة، توقفت، وحكيت لأبو سعيد حكاية أخرى عن أبو جويد، بطلُها شخص كان يحمل لقب (السيتير). كان أبو جويد، خلال فترة النحس تلك، يقيم في غرفة صغيرة بدار شقيقته نسيمة، وفي يوم من الأيام لاحظ أن زوج شقيقته يتضايق من وجوده، وكلما رآه يفتعل مشكلة مع نسيمة ويرفع صوته عليها، فقرر أن يصلح الدار الخربة التي ورثها من أبيه، ويبني فيها مطبخاً، ويسلّك مجاريها، ثم يقيم فيها، وينعم بالاستقلال. ولأنه مفلس، ومنحوس، فقد اضطر لأن يستدين من صاحبه "السيتير" مائة ليرة سورية، كانت كافية، في ذلك الزمن، لإنجاز هذه الأعمال كلها. يعني مشكلة السكنى، انتهت في المحصلة، ولكن مشكلة عويصة أخرى نشأت مكانها، وهي أن السيتير كان يشبه الجَرَس المعلق على ظهر جَمَل، كيفما تمايل الجَمَل يقعقع، ويصرع الناس. لم يترك السيتير أحداً من معارف أبو جويد، أو أقاربه، أو حتى الناس الغرباء، إلا وأخبره بأن أبو جويد مدين له بمائة ليرة، وصار إذا رآه جالساً في المقهى يأتي ويجلس معه، ويشرب شاياً أو قهوة على حسابه، ويعتبر ذلك واجباً، يعني طالما أن أبو جويد مدين له، فالمفروض به أن يضيّفه، ويكرمه! وذات مرة كان أبو جويد يزور صديقاً له عائداً من المملكة العربية السعودية، وأعطاه الصديق علبة سجائر فاخرة، وعندما رآه السيتير يدخن منها، جمع عليه زبائن المقهى، وهو يقول: تعالوا تفرجوا على هذا الـ (بني آدم)، مدين لي بمائة ليرة ويدخن سجائر فاخرة لا يدخن منها سوى الأغنياء.. وعبثاً حاول أبو جويد إفهامه أنه لم يشتر علبة السجائر، وإنما هي هدية.
قال أبو سعيد: والله هذه محنة.
- نعم. وحياة أبو جويد، في تلك الفترة، أصبحت محنة مستمرة، وقد اضطر للابتعاد عن المقهى، وصار يتحاشى المرور في الشوارع التي يحتمل أن يصادف فيها السيتير، لأنه، قبل السلام والتحية، سيقول له بلهجة تبعث على الغيظ:
- أشو يا أبو جويد؟ ألم يرزقك الله مئة ليرة تعيدها لي؟ أم أنك معتاد على التطنيش، والاستهتار بحقوق الناس؟ أنت، بصراحة، رجل قليل ذوق، وقليل احترام.
وبالعودة إلى الحكاية الأصلية، قلت لأبو سعيد إن أبو جويد قرر بيع داره، وإعادة المئة ليرة للسيتير.. وفي ذلك اليوم؛ ذهب إلى المقهى، وكان السيتير جالساً مع بعض أصحابه، فأخذه من يده إلى وسط المقهى، وطلب من كل الزبائن أن يجتمعوا حولهما، وأعلن بصوت مسموع أنه سيأتي إلى هذا المقهى يوم الجمعة، بعد أن يبيع داره، ويعيد مبلغ المئة ليرة للأخ السيتير، وستكونون شهوداً على ذلك. فما كان من السيتير إلا أن انتفض، وقال له:
- ولكنني لا أقبل، ولن آخذ منك المئة ليرة.
دهش الحاضرون كلهم عندما سمعوا هذا الجواب، وسأله أحدهم:
- لماذا؟
فقال، وهو يضحك: إذا أبو جويد أعاد إليّ المبلغ، بأية ذريعة أبهدله كلما صادفته!
ووقتها ضحك أبو الجود وقال:
- إذا كانت البهدلة تسعدك بهدل على كيفك، وأنا سأبقى في داري، أقلعت عن فكرة بيعها!
المهم يا سيدي؛ أكد لي أبو جويد أن صديقه "الطوط" كان يستمتع بمتابعة مشاريع الزواج الفاشلة التي كان يتفتق عنها خياله، ولا يهمه إن تزوج أبو جويد أو بقي أعزب طوال الدهر، حتى إنه، في أحد الأيام، لم ينتظر حتى يلتقي به مصادفة في الساحة، أو المقهى، أو تحت السيباط، بل ذهب إليه في داره الصغيرة التي أصبحت صالحة لسكنى شخص واحد بعدما أصلحها بالمبلغ الذي اقترضه من السيتير، وكالعادة، كان الطوط يحمل بشرى سارة، بأنه عثر على عروس تناسب حبيب قلبه أبو جويد (حَفْر وتَنْزيل)، وهي امرأة درويشة، ومتواضعة، ولا تحب المظاهر الاجتماعية التافهة التي تتمسك بها بناتُ جنسها، أي أنها تطلب (السترة)، ولا تشترط أن يكون لدى عريسها دار سَيَّاحة نَيَّاحة، وسيارة من موديل السنة مصفوفة عند باب الدار، أو أن يكون شهرُ العسل في إسطنبول أو في بيروت.
قال: أنت، يا أبو جويد، بالمختصر المفيد، تكتب كِتَابها في دار أهلها، ثم تسحبها وتأتي بها (زَقْط لَقْط) إلى دارك، وصلى الله وبارك.
ضحك أبو الجود وقال: أبوس يدك يا عمي أبو سليمان. تعال معي.
- إلى أين؟
- إلى دار هذه المستورة، خلينا نكتب كتابها، على السريع، ونأتي بها إلى هنا زقط لقط. لأن الأمور، بحسب كلامك، سمن على عسل، ولا يوجد أمامنا أية معوقات.
- صحيح، ولكن المسألة ليست بهذه البساطة. وأهل العروس ليسوا دراويش إلى هذه الدرجة. فالمفروض بك أن تمهد للأمر، والبيض، على قولة المثل: لا يُقلى بـ...
- أيوه. وماذا نفعل برأيك؟
- ندعو مجموعة من وجهاء الحارة، ونذهب لنسهر عند أهل العروس، وأنت توصي على صينية كنافة، وصينية شعيبيات، وخلال السهرة نطلب يد البنت لك، ونرى ما هي طلبات والدها.
هز أبو جويد رأسه، وقال: طيب عمي أبو سليمان. أريد أن أسألك. أنت، هل لديك موانة على السيتير؟
- طبعاً. أنا أمون على كل أهل البلد. هل تريد أن ندعوه ليرافقنا في (الجاهة) إلى أهل العروس؟
- لا لا لا، أريد أن تقنعه بأن يقرضني مئة ليرة، غير المئة ليرة السابقة، لكي ندفع منها ثمن الكنافة والشعيبيات، وبالنسبة لما قد يطلبه أبوها لكل حادث حديث!