عريس جرن الحَمَّام
رويت لصديقي أبو سعيد، خلال اتصاله بي البارحة، واحدة من حكايات الثنائي أبو جويد وأبو سليمان الطوط التي أعتبرُها أكثر من رائعة. كان أبو جويد يعتلي صهوة دراجته العادية، وقد ملأ خرج البسكليت بأغراض كثيرة، أوصته عليها والدته، والطريق أمامه وعر، ولذلك كان يطح وينح وهو يغالب وعورته بساقيه القويتين، وإذا بأبو سليمان الطوط، القادم من عمق الزقاق، يقف له في وسط الطريق ويفتح يديه على مداهما، فأثر ذلك على توازن الدراجة، فتلجلجتْ، وسقط بعض المتاع من الخُرج، وكاد أن يصدمه ويوقعه على الأرض.
نزل أبو جويد عن الدراجة، وأسندها على حاملها، وتلقى السلام الحار المعتاد من صديقه، بطريقة المباوسة، وطلب منه الإذن بأن يجمع الأغراض التي تناثرت على الأرض ويعيدها إلى الخرج، فوافق، وبعدما انتهى، قال أبو سليمان:
- مبروك يا أبو جويد أفندي. مشكلة زواجك انحلت!
انفلت أبو جويد بالضحك. وقال: إذا أنا عثرتُ على ابنة الحلال التي تناسبني، وترضى بي عريساً مع أنها تعرف كل شيء عن فقري ونحسي، وبدأنا إجراءات الخطوبة، والتجهيز، ثم الزواج، يمكن أن نقول، بعد سنة شغل، إن المشكلة انحلت. أما أن تقول لي انحلت، ونحن واقفان في الزقاق، بالقرب من حَمَّام المحمودية، فهذا اسمه، مع احترامي لك: علاك.
شَخط أبو سليمان شخطة قوية، وقال:
- اسكت ولاك. عندما يقول عمك أبو سليمان القصة انحلت، يعني انحلت.
- طيب يا عمي أبو سليمان الطوط المحترم، بما أن قصتي معقدة، وميئوس منها، وأنت تقول (انحلت) بهذه البساطة، فالأمر يتطلب منا جلسة طويلة، لتشرح لي، على الرواق، وبالتفصيل الممل، كيف انحلت. تعال معي، لنوصل الأغراض إلى الدار، وهناك أغلي لحضرتك كأساً من الشاي مما تسميه حضرتك "فَيْء الشمس على الجبل"، وأنا أتخذ وضع المزهرية، وأنت تتبلضم وتحكي لي كل شيء، ماشي؟
- ماشي.
في البيت، جلس أبو جويد وأبو سليمان على الكرسيين الواطئين المصنوعين من القش، وكان كأسا الشاي الموجودان على الطاولة من نوع (فيء الشمس على الجبل)، أي أن الشاي خفيفة، صفراء، وسكرها قليل، لأن الفقر، كما يعلم أبو سليمان، ناصب حوالي أبو جويِّد دبكة، والإسراف في استهلاك الشاي والسكر يزيد طينه بلة.
المهم، راح أبو سليمان يشفط من الكأس بصوت مسموع، ويتحدث بأسلوبه الخشن، عن العروس (اللقطة) التي عثر عليها وينبغي على صديقه أن يتلقفها، ولا يتركها للزمن، لأن العرسان ذوي الأعين الفارغة سوف يتلقفونها مثلما يتلقف الجائع رغيفاً تنورياً ساخناً.
- طيب يا عمي أبو سليمان. أنا من يدك اليمنى إلى يدك اليسرى. ولكن أعطني فكرة عن العروس، فأنت، وعلى الرغم من يقينك بأنني مفلس، ومنحوس، ولا أسوى في سوق الرجال ربع ليرة، لا ترضى لي أن أشتري سمكاً في بحر.
- بهذه معك حق. يا سيدي عروستك فَنُّوش..
- لحظة لحظة. قلت لي اسمها فنوش؟
- اسمها أفنان يا طشم، ولكن أهلها يدلعونها بـ فنوش، تزوجت وطلقت مرتين في غضون أقل من سنة. وهذا كله من حسن حظك أنت.
- أضحكتني. يعني كلما كانت المرأة متزوجة ومطلقة أكثر، كلما كان حظي؟
- طبعاً. لك عمي أنت عقلك مسكر مثل عقل التيس. ألا تريد أن تعرف السبب؟
- بلى أريد.
- السبب أن فنوش امرأة عصبية، وحضرة المحترم، زوجها الأول، لم يفهم ذلك، فبمجرد أن عَصَّبَتْ عليه، وصارت تبهدله بهدلة الكلب، ضربها بالبوكس، فذهبت إلى دار أبيها وعينها اليسرى نابقة إلى الخارج، ومحمرّة، ومزرقّة، وبعد أقل من يومين أرسل إليها ورقة الطلاق. وتبين أن زوجها الثاني أغبى من الأول، فعندما عصبت عليه، عَصَّب هو بدوره، ومنه كلمة ومنها كلمة، قالت له: طلقني. فحلف عليها بالثلاثة، وهذا ما كان.
ضحك أبو الجود: وهذا كله من حسن حظي!
- طبعاً. وإذا أردتَ أن تعرف السبب قل لي وأنا أشرحه لك بالتفصيل.
- يا حبذا.
- يا أبو جويد، يا ذكي يا فهمان. أنت يتيم، وفقير، ومنحوس، ومديون، والحياة تغلق عليك كل السبل، تُغَرّب وراء الرزق عندما يكون الرزق مُشَرّقاً، وعندما تريد أن تذهب إلى الحج، تكتشف أن الوقت هو عودة الحجاج، وفوق كل هذا، أنت طشنة، تؤذّن قبل أن يحين موعد الصلاة، أو بعد انقضاء الوقت، ومديون، ولا تستطيع أن تسدد ديونك، فإذا طالبك أحدُ الدائنين بما له عليك، تتهرب، وإذا حاصرك أحد الدائنين، تقترض من دائن غيره لتسدد دينه، وصديقك السيتير الذي أقرضك مئة ليرة يبهدلك على الطالعة والنازلة، وأنت لا تجرؤ على النظر في عينيه، وهناك أزقة في إدلب لا تجرؤ على دخولها، لأن فيها دائنين شرسين، إذا وقعت في أيديهم لا يرحمونك..
- أتدري يا عمي أبو سليمان؟ كلامك كله علاك، ولكنه، مع الأسف صحيح، ولكنني لم أفهم ما علاقته بالسيدة المحترمة فَتُّوش.
- فنوش، وليست فتوش.
- فنوش. كما تريد. ولكن ما علاقة هذه بتلك؟
- العلاقة واضحة، ولكن عقلك محدود، لا تلقط الفكرة وهي طائرة. قصدي أقول إنك متبهدل بطبيعة الحال، ومذلول، والدنيا "مكدّنتك" مثل الكديش وعم تفلح عليك مثل الكر، فإذا عصبتْ عليك زوجتك فنوش، وبهدلتك، وحتى ولو ضربتك بالبابوجة، لن تفرق معك.
قال صديقي أبو سعيد وهو يضحك: بشرفي الطوط معه حق.
- نعم. وأبو جويد كان رأيه من رأيك. عندما سمع هذا التشبيه من صديقه، وقف، وقبل جبينه، وقال له: هذه هي المرة الوحيدة التي تنطق فيها بالحق. اسمع يا طوط، أنا مستعد أن أتزوج فنوش، وأعطيها صلاحية كاملة لأن تبهدلني بمعدل ثلاث وجبات في اليوم، ولكن أنا عندي شروط.
- ما هي شروطك؟
- أن تتزوجني هي من على جرن الحَمَّام.
- ما فهمت.
- الرجل الحلبي، إذا خطب أحدُهم ابنتَه، وطلب منه أن يجهزها، ويشتري لها ملابس، وبعض الحاجات الضرورية للعروس، يقول للعريس: لك عروس من على جرن الحمام. يعني بدون أن يتكبد أهلها أية تكاليف. والآن صارت الكرة بملعبك يا طوط.
- لم أفهم.
- اذهب إلى فنوش، وقل لها: عثرت لك على عريس ما في أحلى منه في كل مدينة إدلب، وهو يرضى أن تبهدليه كلما خطر ببالك، ولكن، على قولة المثل: لك عريس من على جرن الحَمَّام.