من الفطرة إلى العقلانية
عزيز أشيبان
تولد مع الإنسان مجموعة من الذخائر التي تنتظر التوظيف والاستثمار والبناء المستمرّ لإعانته على السير قدمًا في رحلة الحياة والغوص في عمق تجاربها. نتحدّث عن عناصر نصنّفها في مقام المواد الخام والتي يعتبرها البعض من المسلّمات التي لا تُفتقد ولا تزول، بل تظلّ راسخة في النفس متحرّكة بنفس الإيقاع والنشاط. غير أنّ الأمر يبدو مختلفًا تمامًا باعتبار الحركة المستمرّة للحياة وما يتطلّبه ذلك من ضرورة تطوير الذات وتسهيل عملية تكيّفها مع تقلّبات الأيّام وما تحمله من الخيبات والانكسارات والصدمات. على سبيل المثال لا الحصر نستدلّ بعناصر: الإيمان، الأمل، الطموح، والرغبة في إشباع الغرائز البدائية.
لتجنّب التقوقع في مخالب قناعة ما هو موجود ومتاح من ذخائر نفسية وذهنية ومادّية والاستسلام التلقائي لنداء الخمول والتواكل والخوف والتردّد، تتّضح أهمّية الخوض في تجربة الانتقال من الفطرة إلى العقلانية ليس تبخيسًا أو طعنًا في قيمة كلّ ما هو حدسيّ أو بحثًا عمّا يناقضه، بل تطلّعًا إلى البحث عن استفزاز أعمق لكنوز الفطرة وجعلها في مسايرة دائمة لحركة الحياة وتغيّراتها.
يجد هذا الانتقال شرعيّته في العديد من البواعث التي تحتاج للتأمّل والتدبّر والجدّية في التعامل. في الواقع، يظلّ الإيمان في حركة دائمة تلتمس الحقيقة من أجل بلوغ مستوى عالٍ من الاطمئنان النفسي والذهني ومجابهة الشكّ والتشكيك وخلخلة القناعات وتكتنز هذه الحركة ممارسات التفكّر والتأمّل والإقبال على السؤال ما دام الوعاء الإيماني موضوع عملية شحن مستمرّة طلبًا للترسيخ والاستدامة. يخضع الأمل والطموح إلى مقاربة الحاجة نفسها، إلى التقوية والتنشيط الذاتي، باعتبار أنّ الأمل (وكذا الطموح) يفتر ويفقد قوّته مع مرور الوقت وتراكم الإخفاقات، أو ينقلب إلى وهم ويأس ومرارة، لذلك وجب بناء عملية التغذية الذاتية. من مقاربة معاكسة، يحيل الانغماس في إشباع الغرائز الحيوانية على انسلاخ الذات من إنسانيّتها واستقلاليّتها ومقامها الاعتباري، والنيل من رصيدها الروحي والقيمي، لا مناص إذن من تبنّي مقاربة بمنحى تنازلي صرف باعتبار أنّ سلطة الغرائز البدائية تستجيب تلقائيًّا إلى دعوات السيطرة والتملّك والاستحواذ والجشع وعدم الاكتراث بحقوق الآخرين المعنوية قبل المادّية.
من الطبيعي أن يستقرّ العلم والمعرفة في مقدّمة السبل التي تعين على اكتساب الوعي المسبق وإدراك أهمّية تجربة الانتقال وما تحمله من حسنات تستحقّ المعاناة والكفاح
حقيقة، تنبعث الدعوة إلى الخوض في تجربة الانتقال من الفطرة إلى العقلانية من رحم الحاجة الملحّة إلى بناء مجموعة من المحاور المفصلية لمنح تجربة الحياة المعنى والتوازن والنسق السليم في فنّ العيش. نركّز على: التحكّم في زمام الأمور وعدم فقدان البوصلة، ثبات الرؤية، توقّع الصدمات والتقلّبات والتعامل معها بعقلانية بعيدًا عن مأساوية العاطفة ومنطق المظلومية، اكتساب إمكانية التداوي والتعافي السريع من الإحباط واليأس، الخوض في تجربة ذاتية من البناء الشخصي للذات والهروب من النمطية، اكتساب الحكمة وفهم أعمق لتفاصيل الحياة، بناء عقلاني للتصوّرات والمفاهيم الشخصية، حفظ الاستقلالية كيفما كانت الضغوط والمعطيات لضمان صناعة عقلانية للقرار، تجنّب الاضطراب في ردات الفعل والنزوع المزاجي نحو التشدّد.
تتحقّق تجربة الانتقال بمعيّة حزمة من الممارسات الواجب الإقبال عليها على مرّ مدار محطّات الحياة وتتطلّب الإيمان الصادق بمبدأ الأخذ بالأسباب والتحلّي بالصبر والجَلَد وحبّ جهاد النفس وتطويعها. من الطبيعي أن يستقرّ العلم والمعرفة في مقدّمة السبل التي تعين على اكتساب الوعي المسبق وإدراك أهمّية تجربة الانتقال وما تحمله من حسنات تستحقّ المعاناة والكفاح، بناء حسّ نقدي وتحليلي، وتوقّع الصعاب والإقبال على مواجهتها بكلّ واقعية ممّا يخفّف من حدّة وقعها على الجانب النفسي والذهني. نميل كذلك إلى الإشارة إلى أهمّية ممارسة التدبّر من أجل مراجعة الذات ومساءلتها وبناء علاقة ودّية وصريحة مع عناصرها. كما نحيل على ضرورة الاستماتة في محاولة تحقيق التحرّر المستمرّ والمتجدّد من سلطة الغرائز البدائية وسحر لذّة إشباعها من خلال تدبير أنجع للعادات اليومية خصوصًا تلك المتعلّقة بالاستهلاك المادّي الصرف.