بين الدين والأخلاق
عزيز أشيبان
من الجميل أن نعاين إقبال الناس على التديّن وممارسةَ الطقوس الدينية بانتظامٍ في محاولةٍ لخلق التوازن بين المُعطى الروحي ونظيره المادي على الصعيد الفردي والجماعي. حتمًا، مثل هذا النزوع يزرع الإيجابية ويشيع جميل القيم وفضائل الأخلاق، ويمنح من النفحاتِ والروح ما يساهم في العطاء وخلق التغيير وتقديم القيمة المضافة.
لكن، عندما يطغى النزوع نحو أداء الطقوس الدينيّة مقابل تراجع الانكباب على ممارسةِ القيم والأخلاق وبناء السلوك السوي، فالمسألة تُحيلُ إلى خللٍ بنيوي في بناء الأولويات، وفي استيعاب المقاصد، وبالتالي تفريغ الدين من محتواه وماهيته وفصله عن نواته الصلبة.
ثمّة تمظهرات عديدة تُثير من مشاعر الأسف والاشمئزاز والرفض ما يصعب تدبيره، إذ كيف يمكن تصنيف من يجتهد في القيام بالطقوس والحرص على أدائها في وقتها، وبصرامة، لكنه يأتي على الأخضر واليابس في ما يتعلّق بحقوق الناس؟
ثمّة من يعتاد الصوم لكنه لا ينقطع عن إلحاقِ الأذى بالآخرين وتنشيط الرذائل، وثمّة من يأخذ صورة سيلفي أمام الكعبة، حيث يكون الهدف من الوجود فيها التركيز المكثّف على العبادة والانفصال عن العالم الخارجي الذي توجّه صورة السيلفي رسائلها إليه؟ ونفس الشيء يحدث عند الإقدام على الصدقة مع رياء التبجحّ بها، أو عندما يغادر البعض مكان العبادة بوجهٍ مكفهر الملامح، تأبى الابتسامة أن تصيبه بحظٍّ من حسناتها. كيف ترقى العبادة وهي لا تنعكس على سلوك المُقبل عليها؟ ربّما نحن إزاء إفرازات المرحلة التي نعيشها ونستحقها، بصفتها مرحلة من تطوّرنا التاريخي الطبيعي. هذا ما أنتجته صناعة القرار عندنا وأفرزته مجتمعاتنا من سلوكٍ وقيم.
يؤدي التديّن بلا أخلاق إلى شيوع الجهل والفساد والسطحية والعبث والفوضى
يفرز هذا التديّن من الاضطرابات والصدوع ما يصعب حصره أو تفحصه ويحيلُ على عددٍ من التناقضات والفجوات، ما دامت تصدر عن سلوكٍ هجين، انفصمت فيه حقيقة التديّن عن ماهيّتها وأحدثت القطيعة مع الأخلاق والجميل من القيم. لك أن تتصوّر نوعيّة القيم التي تنشط في خضم اشتغال هذا النوع من السلوكيات ونوعية إسهامها في الوسط الذي تتحرّك فيه.
في الرياء والتبجّح والتفاخر يُبدي المتديّن ما يريد الآخرون رؤيته، فينال الحمدَ والإطراء والاحترام ويُخفي ضعفَ الشخصيّة عنده بالرياء وتوجيه الأنظار إلى ما يريد تقديمه وتدبيره صورةً عنه، ويتحقّق بذلك الانصراف عن القناعاتِ الفرديّة إلى الاستجابة إلى القناعاتِ الجماعيّة. ثمّة من ينغمس في عملية التديّن كعادةٍ موروثة من الآباء والأجداد، بمنطق "نتبع ما ألفينا عليه آباءنا" من دون تدبّر أو بحث أو اجتهاد. حتما، نحن بصدد فهم سطحي للدين تتحوّل من خلاله العبادات إلى طقوسٍ وعادات ينصرف فيه المجهود نحو السهل من أداءٍ اعتياديٍّ للطقوس، ويبتعد عن الصعب من تعمّق في معاني ومقاصد العباداتِ وتنزيلها في السلوك، نتحدّث عن دينٍ على المقاس نختار منه ما يستجيب لرغباتنا وأهوائنا.
فضلًا عن ذلك، ثمّة جذور أخرى لهذه الظاهرة، تتمثّل في خبلٍ في المفاهيم والتصوّرات، الميل إلى الانغلاق أكثر منه إلى الانفتاح، التعصّب في الحديث عن الدين والدفاع عنه واعتباره من المسلّمات المُكتسبة، خلط حقيقة الدين بتاريخ أهله واختزاله في شخصيّة مُعتنقيه، استفحال سلطة الغرائز الماديّة وسحقها كلَّ ما هو روحي، نشاط النرجسيّة والأنا والأنانيّة، الاستسلام إلى غرائز التواكل والكسل وتعطيل مبدأ الأخذ بالأسباب والإعراض عمّا تنفره الذات من بذلِ الجهد والاجتهاد، الخوف وعدم الثقة في النفس التي تسكن التصوّرات الذهنيّة حول الدين بفعل كيفيّة تلقينه في سنٍّ جد مبكّرة، سطوة السياسة على الدين لتوظيفه في ما يخدم استدامة الحكم القائم منذ زمنٍ بعيد، شيوع التأويلات المتآكلة جرّاء جمود البنيات الذهنيّة، تعطيل عمليات التفكّر والتدبّر والتمحيص والتجديد، وحصر الدعوة في الوعظ الشفهي والابتعاد عن الممارسة والسلوك، حيث المجال الحيوي والجوهري لنشاطها.
يؤدي التديّن بلا أخلاق إلى شيوع الجهل والفساد والسطحيّة والعبث والفوضى، وتتولّد من رحمه الاختلالات والاضطرابات المتشعبة والمركّبة. كما يزرع الشك المريب عند اليافعين والفجوة العميقة بين ما يسمعونه من وعظٍ ونصحٍ وما يرونه من نقيضٍ، قد يقود البعض منهم إلى الإلحاد والسخط على الدين، جملةً وتفصيلًا.