أغنياء ويمارسون التسوّل
عزيز أشيبان
يُقدم معتنقو الديانة البوذيّة على ممارسةِ مجموعةٍ من الطقوس التي تبحث عن تحقيق التوازن بين الميولات المادية ونظيرتها الروحيّة. ومن بين هذه الطقوس، نتوقف عند ممارسة التسوّل التي تعرف باسم "تاكوهاتسو". تجد هذه العادة جذورها عند معتنقي مذهب زن، إذ تُعتبر مُمارسةً اعتياديّة عند الكهنة البوذيين، وعند الساكنة التي بموجبها تقدّم المساعدة للدير.
يُقبل على هذه الممارسة أناس من مناطق مختلفة من العالم، إذ قد تصادف غنيًّا أو أحد المشاهير في الشارع، يستجدي الصدقة بكلِّ انكسارٍ وتذلّلٍ، ليس للبشر بالطبع، بل لروح وحكمة الفعل الذي يُقبل عليه.
تكمن الحكمة من هذه الممارسة عند البوذيين في اكتسابِ التواضع من خلال تمثّل الانكسار والحاجة إلى مساعدة الغير، وتذكير الذات بضعفها وقيمتها الحقيقيّة والسيطرة على حبِّ التملّك والتعلّق بالماديّات، وضبط الاندفاع نحو إشباع الغرائز، ونشر وتنشيط قيم جميلة داخل المجموعة. وفي الواقع، وفي قلب هذا التوجه يستفيد المُعطي والآَخِذ على حدِّ سواء، فكلاهما في بحثٍ عن التوازن الشخصي وتغذيّةِ الطاقة الروحيّة وتجديد تدفقها وخلق التلاحم بين الجميع.
العبرة، بكلِّ تأكيد، من العروج على هذا المثال لا تتمثّل بالدعوة إلى اعتناق البوذيّة، بل الاعتبار والاقتداء في ممارسة الرأسمال العقائدي ومنحه البعد الحركي المؤثّر. ما فائدة الإقبال على التديّن ما دامت طقوسه تنسلخ من ماهيتها، وتتحوّل فقط إلى عاداتٍ شكليّة جامدة تُبدي ما لا تبطن من الحقائق؟
غني عن البيان القول إنّ ديننا الإسلامي غني بالدعوات إلى إقامةِ وممارسةِ طقوسٍ تُواكب حياة المُقبل عليها في جميع تفاصيلها، وتساعده على تدبير تقلّباتها والحفاظ على الثبات والثقة في النفس وعدم السقوط في اليأس أو الغرور. نذكر على سبيل المثال لا الحصر، طلب المعرفة والحكمة (كلمة اقرأ تحيل على كنوز من المعاني والأبعاد)، التقشف، الصيام، التدبّر والتفكّر (غار حراء). يُبنى مجتمع القيم من خلال الانكباب على تنشيطها (القيم) وممارستها ومشاركتها فعليًا والتبرّؤ الفعلي من الرياء وحبِّ الظهور والتبجّح والتفاخر.
ما فائدة الإقبال على التديّن ما دامت طقوسه تنسلخ من ماهيتها وتتحوّل فقط إلى عادات شكليّة جامدة تبدي ما لا تبطن من الحقائق؟
على المستوى الرسمي، ندعو صنّاع القرار في عالمنا العربي، ممّن أذنب في حقِّ الوطن، إلى التفكير في الأمر والإقبال على ممارسةِ هذا الطقس، عسى أن تستيقظَ بعض الشذرات من أرواحهم وضمائرهم، وعسى يسترجعون حسّهم الإنساني النائم والكرامة المسلوبة بحبِّ المناصب ومراكمة الثروات وإحياء حبّ الوطن لديهم، والتكفير عن الذنب وتقديم خدمة أفضل للمواطنين، والاقتراب أكثر من فهم ماهيّة الحياة. وهؤلاء ليسوا أكثر من عالة على موارد البلد وأبنائه البررة، فهم يمتصون دماء الشعب ويراكمون ثروات الريع بالسرقة والسطو، وبالقانون! يتحولون إلى وحوشٍ ضارية تأتي على كلِّ ما يصادفها من رمق عيش أو بصيص دخل لدى المستضعفين، وتجهز على البلد باستدامةِ التبعيّة وتعميق الهشاشة وهندسة الأزمات والإخفاقات. أيضًا، هم يتسبّبون في الفشل أينما حلّوا وارتحلوا وينشرون البؤس والضياع في بيئةٍ جميلة، أفسدوا هواءها وماءها وزرعها. مقابل هؤلاء، هناك بكلِّ تأكيدٍ زمرة من الفاضلاتِ والأفاضل الذين يمارسون السياسة بكلِّ وطنية وإخلاص وتضحيّة ونكران الذات ويشاركون أسمى القيم.
أخيرًا، نقول: لنا الدين الذي نستحقه فهمًا وممارسة، لنا المجتمع الذي يعكس حقيقتنا، لنا المراتب الدنيا في معظم مؤشّرات التجارب التنموية، لنا الأوهام التي نتغنّى ونتبجّح بها. فهل من طريق نسلكه للنجاح؟