منحطٌّ وتافهٌ ومتوّجٌ بالعبث
لا جديد في الموسيقى العربية إلاّ ما تحاوله قلّة نادرة جدّاً من الموسيقيّين العرب في صمودها أمام ما سمّاه مارسيل خليفة "جرّافة الانحطاط". إنّها القلّة التي يتمّ تجاهلها، سواء عن عمدٍ أو جهل. فالنوعيُّ والمتميّزُ هو الهامشيّ والمتواري؛ أمّا ما يبرزُ ويبرقُ فهو المنحطُّ والتّافهُ والمتوّج بالعبث. ليته كان عبثاً ناتجاً عن رؤية مبدعين حقيقيّين يقيمون في السّؤال وينتجون قلقه وجمالياته؛ لكنّه عبث من لا ذوق لهم، ولا عُمق، ولا موهبة. لقد بات من الصّعب أن يصادف المرء عملاً موسيقيّاً عربياً ذا قيمة، فلم يعد من تلك الموسيقى سوى آلات عزف استُخدمت معاوِل للهدم. لقد دخلنا عصراً من الذوق السّيئ والمروّع.
في أوقات الرّاحة، أفتِّش في محرّكات البحث عن فسحةٍ موسيقيةٍ بديعة، تستأنف وعد ما تركه الروّاد بالتّجديد، أو بالقطع الذي يجنح نحو المُغاير ليرفع الذوق، وينحو إلى جماليات تقوم على توظيف الثّراء الموسيقي المحلي أو العالمي في توليف ذكيّ، فلا أجد شيئاً من ذلك على الإطلاق! فما إن أتجاوز زمن محمّد القصبجي، ورياض السنباطي، ومحمّد عبد الوهاب، وفريد الأطرش، والأخوين الرّحباني، وبليغ حمدي؛ أو زمن عبد الهادي الدكالي، وملحم بركات، وأسماء مغاربية وعربية أخرى ظلّت تقاوم مع هبّة التهريج والابتذال إلى أن خفتت؛ حتى أشعر بذعرِ من انخلع قلبه: لقد انتهت الموسيقى، انتهى عصر الفنّ!
وفي مساحة الصمت الذي يتركه الذّهول، أظل أحملق في السّقف، وأنقر بأصابعي على سطح المكتب الأبيض في يأس. فليس أمامي سوى العودة إلى الرّوائع الشّرقية والمغاربية التي استمعت إليها ألف مرّة، أو الاستسلام إلى الإيقاعات العالمية من الشّرق والغرب، أو الاسترخاء ببيجامتي للإصغاء إلى ما يقوله الكون في سيمفونيات باخ وموتسارت وغيرها من تلك الموسيقى التي يحرّكها ما يحكم الرّعود.
بات من الصّعب أن يصادف المرء عملاً موسيقيّاً عربياً ذا قيمة
لقد كان مطلب الفنّانين في الأجيال السّابقة بالدّرجة الأولى هو بناء صروح موسيقيّة خالدة، بعضهم باع أملاكه من أجل ذلك؛ كما فعل الرّاحل عبد النّبي الجيراري أحد أعمدة الموسيقى المغربية الذي لا تُنسى فضائله على جيلٍ بأكمله. الكثير من المبدعين الحالمين أفنوا أعمارهم من أجل موسيقى سُبكت على مقاسٍ جماليّ حالم. أليس الفنّ هو البوّابة التي نصفقها في وجه العالم، حتى نعيد ترتيب فوضاه داخلنا؟
لكنّ جرّافة العالم الرأسمالي الفظيع ستجرف الفنّ نفسه، ستعبث به، وستُحوّل المادّة الموسيقيّة إلى مجرّد سلعة قابلة للاستهلاك السّريع، ومجالاً للاستثمار والرِّبح المادّي الذي يكدّسهُ أصحاب شركات الإنتاج من رجال الأعمال، كهّان الذوق السيّئ الكبار، والذين لا يعرفون شيئاً عن النّوتة، لكنّهم يدفعون بجشعهم من أجل الرِّبح السّريع إلى هندسة الأغنية على الإيقاع السّخيف نفسه، في أسلوب متواضع، وابتذال مريع. إيقاعٌ لا يمكن تجنّب تأثيره على الذّوق العام بأيّ حال.
تُنتج اليوم عشرات الأغاني بدون قيمة، ودون أن تَثبت عاماً واحداً في أذهان المستمعين
ففي الزّمن الماضي الذي يروقنا أن نصفه بالجميل، الزّمن الذي ينتمي إلينا أكثر من لحظتنا البائسة، كانت النّخبة الفنّية هي من بيدها السّلطة على الفنّ، توجّه وتحكم أو تنتقد، تجيز أو تمنع، بينما شركات الإنتاج ترعى وتدعم وتذعن فحسب. لقد كان الكلام الأوّل والأخير للمبدع الذي قلبه وغيرته على الفنّ، لذلك كانت الحدود مرسومة بدقّة، وعلى نحو مثالي وآمن. فهذا الرّسم الدقيق غير المسموح بتجاوزه ساهم في بروز قامات موسيقيّة خالدة، وفي ظهور مطربين وُجدوا لكي لا يُغيّبهم النّسيان. أمّا اليوم، ففي حمّى السُّرعة تُنتج عشرات الأغاني بدون قيمة، ودون أن تَثبت عاماً واحداً، إذ بقراءة سطحية وسريعة لمضمونها الفارغ والمعزّز بصور مُشبعة بإغراءات الجسد والرّموز الغريبة، يمكن حلّ سرّ قوّة حضورها الإعلامي ببساطة. لذلك، فإمّا أن تكون الموسيقى سافلة منحطّة وإما مُمتعة مجنّحة، إمّا هادئة وإما زاعقة. لا أعرف أين قرأت هذه الجملة: "حينما يكون الذّوق الجيّد رزيناً، يكون السّيئ فاجراً، وحيث يهمسُ الذّوق الجيّد، يضجّ الذّوق السيّئ بالصراخ".
يجمع الكلّ تقريباً على أنّ الموسيقى العربية في الحضيض؛ انحطاط شامل مدمّر، بعد أن اكتسح عديمو الموهبة حياتنا مثل زوّار غير مرحّب بهم، تسلّقوا كالعناكب من عوالم سفلية. كلّ الأضواء البرّاقة فتحت أعينها على اتّساعها من أجل هؤلاء الحمقى حتى يُنكّلوا بالذّوق إلى درجة غير مسبوقة، لكنّ موسيقاهم مع ذلك، ظلّت غريبة مستهجنة، لا تعبّر عن وجدان جيلنا أو أيّ جيل آخر، إنّها طارئة، دخيلة. ما جاؤوا إلا ليفرِّغوا أرواحنا من الجمال، وليحقّقوا ما تنبأ به جورج أورويل في روايته 1984: "مُجتمع خالٍ من الفنّ".