ماذا يفعل من لا يتابع كأس العالم؟

01 ديسمبر 2022
+ الخط -

لست من متابعي كرة القدم، ولكن لا يمكن لأحد أن ينكر أنّ مشاهدة الساحرة المستديرة ممتعة، وأنّ انتصار الفريق الذي يشجعه الإنسان يُسبّب فرحةً وحالةً من النشوة لدى المشجع، وكأنه حقّق إنجازاً شخصياً.

متابعة كرة القدم ممتعة جداً، خاصة إذا كنت تشجّع فريقاً معيناً بحماس، فترتفع معدلات الأدرينالين وتتصاعد ذروة الحماس ودقات القلوب مع كلّ لحظة فارقة في مسيرة الفريق الذي يشجعه الشخص خلال منافسات كأس العالم. هذه اللعبة تخرج بالناس من دائرة الحياة الحقيقية وضغوطها وتذهب بهم في رحلة ممتعة، لما فيها من حماس وترّقب وخوف وسعادة.

الدول ذات المنتخبات الضعيفة، والتي لا تشارك في كأس العالم، ليبيا مثلاً، يُحرم أهلها من هذه المتعة، ولذلك يلجأ هواة كرة القدم إلى تشجيع فريق معين، قد يكون "س" أو "ص" من الفرق. وفي الغالبية العظمى من الحالات، تجد أنّ المشجع الليبي، أو المشجع في دولة أخرى غير مشاركة في كأس العالم، يشجع فريقاً قوياً له تاريخ وصولات وجولات في كأس العالم.

والمشجع في هذه الحالة يبني حالة من الارتباط الذهني والعاطفي الوهمي غير الحقيقي مع هذا الفريق، ويكون هذا انتماءً شعورياً مبالغاً فيه مع الفريق. فتصادف غالباً بين أوساط المشجعين من يقول لك إنه سيشجع فريقه (س أو ص) حتى لو لعب مع المنتخب الوطني لبلاده! فما الذي يدفع مواطنا في دولة لا تشارك في كأس العالم لتشجيع تونس أو إيران، أو غيرهما من الفرق ذات الحظ الضعيف في المنافسات؟

ما يحدث عادة هو أنّ الناس تشجّع البرازيل والأرجنتين وإنكلترا وفرنسا وإيطاليا وغيرها من الدول ذات التاريخ الكبير في كرة القدم. ويستخدم المشجع، في هذه الحالة، ضمن كلماته، جملاً تفيد بانتمائه لهذا الفريق مثل "فريقنا فاز"، "نحن فزنا"، "وأنتم خسرتم"...

ومن النادر، أو من المستحيل (حسب اعتقادي) ربما، أن تجد في الأرجنتين أو البرازيل أو إنكلترا وإيطاليا... من يشجّع منتخباً غير منتخب بلاده.

يشجع الناس في ليبيا، وغيرها من الدول التي لا يحالفها الحظ للمشاركة في المونديال، فرقاً لها حظ أكبر في الصعود إلى الأدوار المتقدمة، وربما الفوز بكأس العالم

اختيار الفريق يبدأ منذ الطفولة، من خلال علاقة الإنسان مع المحيط العائلي والاجتماعي، وهو محصور، غالباً، في مجموعة من الفرق الكبيرة التي لها حظ أكبر في تحقيق الانتصارات، والمساهمة بعد ذلك في بناء حالة وهمية من الإنجاز والسعادة والمتعة والنشوة للمشجعين!.

هذا الارتباط يكبر، بمرور الأعوام، مع الطفل الذي يهوى ويتابع كرة القدم، وربما يصل بالشخص إلى درجة التعصّب.

الأمر في الحقيقة يشبه عملية تعويض الشيء الناقص، فالناس هنا في هذه الحالات يعوّضون عدم مشاركة فرق بلدانهم، من خلال تشجيع فرق قوية وبناء حالة من الارتباط والانتماء الوهميين اللازمين لإحداث المتعة والنشوة من خلال متابعة كرة القدم.

تفسير هذه المشاعر والعواطف واضح، ولكنني على الرغم من ذلك، أستغرب أحياناً من بعض المثقفين الذين أعرف أنّ لهم مواقف وطنية مناهضة للاستعمار والتاريخ الاستعماري في ليبيا، وأراهم يشجعون إيطاليا مثلاً بتعصّب، وهي الدولة التي احتلت ليبيا وارتكبت فيها المجازر والمذابح؟!

ومن الغريب أيضاً، أن تجد شخصاً يصنّف نفسه أنه من جماعة إسلامية مثلاً، ويشجع فريقاً أجنبياً في مباراة مع دولة عربية أو مسلمة!

والاستغراب الحقيقي يتزايد عندما نرى مثلا من ينتقد فريقاً أوروبياً أو عربياً لأنه فريق مكوّن من لاعبين تحصّلوا على جنسية البلد!! بينما هو ذاته يشجع فريقاً أجنبياً ويحبّه أكثر من حبّه لفريقه الوطني؟!

كرة القدم رياضة مفيدة للاعبها، وممتعة للمشاهد، ولكن حبّها ومتابعتها والهوس بها.. كلّ هذه الأمور لا ترتبط بالعقل ولا بالمنطق ولا بالوطنية، خاصة إذا تحدثنا عن ميول وتطلعات المشجعين في الدول التي لم تشارك في كأس العالم أو لا تشارك غالباً.

هذا الارتباط يكبر مع مرور الأعوام مع الطفل الذي يهوى ويتابع كرة القدم، وربما يصل بالشخص إلى درجة التعصّب

والإنسان في الدولة التي لا تشارك في كأس العالم يريد أن يستمتع بهذه اللعبة، ولا يريد أن يحرم من المشاركة والمنافسة والتشجيع والترّقب، حتى وإن كان ذلك بصورة وهمية غير حقيقية. ولذلك يشجع الناس في ليبيا، وغيرها من الدول التي لا يحالفها الحظ للمشاركة في المونديال، فرقاً لها حظ أكبر في الصعود إلى الأدوار المتقدمة، وربما الفوز بكأس العالم.

أحيانا أجد نفسي سعيداً لأنني لا أتابع كرة القدم، وذلك لأنني متحرّر من هذه الدوامة غير المنطقية، والتي تثير التعجّب في عقل أي متابع يريد أن يزن الأمور بميزان العقل بعيداً عن العواطف.

شخصياً، لا أرى أنه من الخطأ أن يشجع الإنسان فريقاً ما، حتى ولو كان هذا الفريق لا يمثل بلاده، ولكنني أعتقد أنّ الاعتدال والمنطق يزّينان كلّ شيء، وأنّ التعصّب والعاطفة المطلقة يُسيئان إلى الإنسان، وما يحب. 

على كلّ حال، ولأنني لا أتابع مباريات كرة القدم، أجد نفسي مرتاحاً جداً عندما يقلّ الازدحام في طرق وشوارع مدينتي عندما تكون هنالك مباراة مهمة في كأس العالم. وأستغل هذا الأمر في قضاء حوائجي وإنجاز بعض المهام، وقد دفعني هذا الأمر، مرّة، للقول لأحد الأصدقاء: "ياريتك عام يا كأس العالم"، وهذه الجملة تعني بلهجتنا في ليبيا "يا ليت كأس العالم يمتد على مدار عام كامل".

أحمد الزعليك
أحمد الزعيليك
صحافي وكاتب ليبي من مواليد 1987 من بنغازي شرقي ليبيا، حاصل على بكالوريوس الطب والجراحة من جامعة بنغازي، وعمل في إعداد وتقديم البرامج في الراديو، وصحافياً في عدة مؤسسات، بالإضافة إلى أنه رئيس تحرير منصة "نوّرني" للتحقّق من الأخبار والمعلومات المضلّلة منذ 2020. يعبّر عن نفسه بالقول "العقل هو أعظم نعم الله على الإنسان، وأفضل ما يمكننا فعله بعقولنا هو فهم وإدراك ما حولنا، وهذا أمر مطلوب للتغيير نحو الأفضل أو التقدّم إلى الأمام".