لماذا يميل كثيرون إلى "تمسيح الجوخ"؟
قبل 14 عاماً، شاهدت حلقة من حلقات المسلسل العبقري "ضيعة ضايعة"، وكانت هذه الحلقة تتحدث عن التملّق، وملخص الحلقة يقول إنّ قراراً صدر من الحكومة بمنع التملّق (تمسيح الجوخ) وضرورة تعبير المواطنين عن آرائهم.
اتصل مسؤول ما برئيس قسم الشرطة في الضيعة ليسرد عليه القرار، ولكن رئيس المخفر لم يفهم معنى التملّق فطلب استدعاء مثقف الضيعة، سلنقو، ليشرح له معنى التملّق، فأوضح له أنها تعني "تمسيح الجوخ". بعدها، قام رئيس المخفر باستدعاء جميع المواطنين في الضيعة ليبلغهم بالقرار، ويقول لهم إنه يجب عليهم من الآن أن يعبّروا عن آرائهم، ويتوقفوا عن التملّق (تمسيح الجوخ).
بعد ذلك وقع الناس في حيرة من أمرهم، ولم يعودوا قادرين على تلبية مطالب الحكومة، التي لم يفهموها بشكل واضح، وظنّ بعضهم أنها مصيدة، حتى أنّ مخبر المخفر وقع في حيرة من أمره، فجاء إلى المخفر ليقول لرئيسه: إنه لم يعد يعرف عمّن يبلّغ في دراساته الأمنية، لأنه كان سابقاً يبلغ عمن يعبّر عن رأيه! فأجابه المساعد أدهم، وقال له: بلّغ عن كلّ شخص يتملّق أو لا يعبّر عن رأيه.
حلقة ممتعة مليئة بالأفكار والإسقاطات، تصل في النهاية إلى قرار من سكان الضيعة بأن يسلّموا أنفسهم جميعاً للمخفر بتهمة "تمسيح الجوخ"، وذلك بعدما عجز المواطنون عن التعبير عن آرائهم، وهم في الحقيقة لم يتملّقوا أحداً بعد صدور القرار، ولكنهم كانوا يرون أنّ الاعتقال بتهمة "تمسيح الجوخ" أخفّ ضرراً من الاعتقال بعد التعبير عن الرأي.
كانت هذه المرة الأولى التي أسمع فيها "تمسيح الجوخ" وأعرف معناها، وكان عمري 20 عاماً تقريباً في ذلك الوقت. وفي الحقيقة، شاهدت الحلقة عدّة مرات خلال السنوات الماضية، وعرفت بعد سنوات أنّ الكلمة "تمسيح الجوخ" تستخدم أيضاً في بعض مناطق ليبيا، حيث مرّت عليّ في عدة قصائد شعبية، وهي كلمة تعني أيضاً التملّق في اللهجة المحلية في بعض المناطق، ولكنها ليست متداولة بشكل واسع.
لكن: لماذا يتملّق الناس حقاً؟
الإجابة عن هذا السؤال ربما تحتاج إجراء دراسة اجتماعية ونفسية معمّقة، وقد تختلف النتائج من بلد إلى آخر ومن منطقة إلى أخرى. ولكنني سأسرد في هذا المقال بعض التحليلات التي أظنّها تستند إلى المنطق ومحاولة الفهم للسلوك الإنساني المعقد والمليء بالمتناقضات.
للتملّق أسباب كثيرة جداً، تبدأ غالباً من المجاملة والنفاق الاجتماعي الطفيف، الذي يمارسه بعض الناس لقضاء حوائجهم وتخفيف حدّة التعاملات الاجتماعية اليومية بين الناس أو تحقيق المصالح.
هذا النوع من السلوك بطبيعة الحال يتغيّر بشكل يتناسب طرداً مع حجم المصلحة والحاجة أو قيمة الشخص الذي يتعامل معه الشخص المجامل أو المتملّق، فيصبح تملقاً ظاهراً عند معاملة المسؤولين مثلاً أو الحديث عنهم.
وإذا حاولنا تحليل هذه التصرّفات نجدها غالباً مرتبطة بأسباب منطقية، وأنا هنا لا أبرّر مثلاً، ولكنني فقط أستعرض هذه الأسباب.
لو ضمن الناس خدمتهم من قبل مسؤولي أوطانهم وحكوماتهم لقلّت نسبة القصائد ومهرجانات التملّق التي يعمل فيها المتملقون ليسعدوا المسؤول الفاشل في الدولة الفاشلة
هناك صنف من الناس يستخدم التملّق كوسيلة للوصول إلى الهدف، أو تحقيق المصلحة الوظيفية مثلاً، ويستخدم مبرّرات منطقية لنفسه للتعامل مع فكرة التملّق غير المحبّبة إلى النفس، من خلال بعض الأمثال، مثل القول: "لو كان لك حاجة عند الكلب قول له يا سيدي"، بينما يبالغ صنف آخر من الناس في المجاملة والنفاق الاجتماعي، ويعتبرون ذلك من أسباب تسهيل أمور الحياة في مختلف الاتجاهات.
وفي الدول العربية بشكل عام، وليبيا بشكل خاص، هنالك دوافع للتملّق، من بينها الخوف، حيث يحتمي الناس بأشخاص آخرين، يتملقونهم ليقوا أنفسهم من شرّ السلطة أو شرّ جهات أخرى. الخوف يدفع هؤلاء للتملّق، وذلك ليشعروا بأنهم في أمان، وأنهم في صف الجهة المتحكّمة أو المتنفذة في منطقة ما أو بلد ما.
هنالك نوع آخر يتملّق بإيمان حقيقي، هذا النوع من الناس تجده يقدّس شخصاً ما مثلاً، أو يتملّقه إذا صح المعنى، ولكنه في الحقيقة يؤمن في قرارة نفسه بما يفعل، فهو مؤمن بأنّ (س) من الناس هو من يحمي البلد أو يحمي المدينة أو غيرهما، أو أنّ (ص) مثلاً يستحق الاحترام والقصائد نظراً لما قدّمه للدولة أو المدينة أو القبيلة أو الشركة حتى.
ثمّة نوع يتملّق ليتماشى مع التيار أيضاً، وهذا يحدث عندما يتحوّل التملّق إلى سلوك مجتمعي يمارس بشكل واسع، فيلجأ الشخص للتملّق حتى يحسّ بأنه من ضمن هذا المجتمع وينتمي إليه، وأنه ليس غريباً في الوسط المحيط به.
ربما يختلف الإنسان مع مبرّرات أحد هذه الأصناف، وربما يتفق معها، وليست هذه هي القضية الحقيقية التي أريد أن أسلّط الضوء عليها، فالجدل لا ينتهي. لكن، وبشكل شخصي، أميل دائماً إلى محاولة الاعتدال في كلّ شيء، وأعتبر التملّق نوعاً من أنواع المبالغات العاطفية أو المبالغة في السعي غير الأخلاقي نحو هدف ما مثلاً.
ومن باب الاعتدال، من المفترض أن يُشكر من أحسن، ويُعاقب من أساء أو يُنتقد، ولكن في حدود العقل والمنطق والقوانين، وبعيداً عن المبالغات التي لا تنفع، خاصة في باب التملّق و"تمسيح الجوخ".
وفي الحقيقة لو كانت العدالة سائدة، ولو بشكل نسبي، ربما كانت ستقل نسبة من يتملّق للوصول إلى هدفه، لأنه لن يحتاج إلى ذلك. ولو طبّقت القوانين مثلاً في الوظائف والتكليفات، وتمت محاربة الفساد والمحسوبية، لقلّت نسبة من يتملّق لتحقيق مصلحة، ولو ضمن الناس خدمتهم من قبل مسؤولي أوطانهم وحكوماتهم لقلّت نسبة القصائد ومهرجانات التملّق التي يعمل فيها المتملقون ليسعدوا المسؤول الفاشل في الدولة الفاشلة.
للأسف، إنّ الدول الغارقة في الفشل، والتي يعتمد فيها التملّق مقياساً ومعياراً في التقدّم إلى الأمام بين المثقفين والنخب وجزء كبير من المجتمع، هذه الدول لن تتقدّم وقد تنهار، لأنها دول قائمة على الفساد، وتعتمد منظومة للفساد، وهو ما يؤدي إلى تآكلها بشكل مستمر بطبيعة الحال.