لنكون بخير... ماذا تحتاج صحتنا العقلية؟
إذا كنت تعاني من سلامة صحتك العقلية، فأنت لست وحدك. فثمّة أحداث ومآس يعيشها عالمنا العربي منذ سنوات طويلة في كلّ مكان، شعب أعزل في فلسطين إغتُصبت أرضه، قتل، إرهاب، اعتقالات ومشاهد مؤلمة وقاسية نشأنا عليها، مجازر في سورية والعراق واليمن... ومؤخّراً كوارث طبيعية ومآس ومشاهد تُدمي القلوب من الزلزال الذي ضرب تركيا وسورية وصولاً إلى زلزال المغرب وفيضانات ليبيا.
كلّ هذه العوامل مُجتمعة جعلت عدّة دول عربية في المراتب الأخيرة على صعيد الصحة العقلية، فيما لم تُسجّل أيّة دولة عربية وجوداً ضمن قوائم أعلى التصنيفات ضمن تقرير الحالة العقلية للعالم خلال عام 2022، والصادر عن مختبرات سابين (Sapien Labs)، وهي منظمة بحثية تقوم بمسح عالمي سنوي لفهم حالة الصحة العقلية.
والصحة العقلية (Mental health)، هي حالة من العافية على الصعيد العاطفي والنفسي والاجتماعي، تؤثر على شعور الشخص وتفاعله وتأقلمه مع الحياة وأحداثها. كما أنّها تحدّد كيفية تعامل الشخص مع الضغوط وكيفية اتخاذ قراراته.
لن ندخل بحديثٍ تخصّصي ليس من اختصاصي، ولن أُنظّر على القارئ في هذا الإطار، لأنّنا مشمولون أيضاً كإعلاميين وصحافيين بالفئة التي تعاني من الضغوط والتأثير على صحتها العقلية. فنحن نتعرّض يومياً للتعامل مع صور الأشلاء والدماء والقصص المأساوية، حتى ونحن وراء مكاتبنا، ومنّا من يشاهدها بأمّ العين أثناء التغطيات، خاصة تغطية النزاعات والحروب والكوارث. ذلك فضلاً عن الضغوط المرتبطة بالمهنة نفسها، لناحية السرعة والدقة والمتابعة الآنية وغيرها من التفاصيل. كلّ هذا يجعلنا نسأل: كيف يمكن لصحتنا العقلية أن تكون بخير؟
نحتاج في عالمنا العربي إلى خطاب واقعي ينطلق من مشكلاتنا وانعكاساتها على صحتنا العقلية
وليس الإعلام وحده من يعاني في هذا السياق، بعد أن باتت الشبكات الرقمية ومواقع التواصل الاجتماعي ساحة أساسية في العالم العربي للتعرّض للصدمات المتواصلة لما يتم نشره دون أيّة معايير في نشر المحتوى.
وعلى المقلب الآخر، ازداد انتشار المؤثرين الرقميين الذين يتحدثون في مختلف القضايا الاجتماعية والسياسية والمالية...، والذين باتوا مصدر إلهام لفئة مُعتدٍّ بها من البشر.
ظاهرة التأثير على المنصّات الرقمية تكاد تكون جديدة بعض الشيء، وفرضت وجودها أكثر في السنوات الأخيرة، وثمّة من يعتبرها وظيفة يمارسها البعض من أجل كسب الشهرة واستخدامها لأهداف تسويقية، وثمّة من يرى أنّ المؤثرين هم من يشاركون متابعينهم مواضيع متنوّعة، قصد التفاعل معها واقتراح حلول بديلة لمشاكل معينة. وسرعان ما تحوّلت فكرة "المؤثرين" إلى ظاهرة، يعتبرها البعض طريقاً سهلاً وسريعاً، لربح الكثير من المال.
هذا ليس نقداً، إنّما قراءة عامة لهذا المشهد. وهنا، سأتطرّق إلى الحديث فقط، عن الجانب المرتبط بروح المقال، أي الصحة العقلية. كلّنا بحاجة إلى إرشادات في هذا السياق، ولكن هل تُعالج نتائج مشاكل وأحداث وتأثيرات كالتي ذكرناها في المقدمة على ذواتنا ونفسيتنا، ببضع كلمات من مؤثّرٍ رقمي خارج الاختصاص الاجتماعي أو النفسي، ليأتي ويحدثنا دائماً عن إيجابيات الحياة، وحلوّها، وأنّه يجب أن نبتسم دائماً، ونضحك، ونتفاعل، وكأنّ كلّ ما نمرّ به لا شيء!
هذا المحتوى الذي يُقال عنه "تحفيزي" ليس دائماً هو الحلّ، خصوصاً أنّ أغلب صانعيه من غير المتخصّصين
تكمن المشكلة، بأنّ عدداً كبيراً من المؤثّرين باتت غاياتهم مالية فقط، إذ يسعون لكسب المشاهدات والتفاعلات التي تعود عليهم بعائدات من الشركات التكنولوجية، والمال في هذه الدنيا سلطان تضعف أمامه النفوس. وأمام واقع حال كهذا، يسقط الحرص عند العديدين في تقديم محتوى مفيد ومتوازن، لأنّ الهدف هو الربح المادي فقط.
لا. حتماً لا ليس هذا العلاج، فنحن نحتاج في عالمنا العربي تحديداً، إلى خطاب واقعي ينطلق من مشكلاتنا وانعكاساتها على صحتنا العقلية. مثلاً، عندما تمرّ أمام أعيينا مشاهد النساء الحوامل والأطفال الرضع الذين قضوا في إعصار دانيال، بتقديركم هل سنبقى في صحة عقلية متوازنة! كيف يمكن أن تكون، إيجابياً وسعيداً دائماً! وأيضاً، أمام مآسي زلزال المغرب أو قضايا القتل والعنف الناتجة عن أزمات اجتماعية وأنظمة فاسدة ومستبدة. فحتماً، هذا المحتوى الذي يُقال عنه "تحفيزي" ليس دائماً هو الحلّ، خصوصاً أنّ أغلب صانعيه من غير المتخصّصين.
نحن نبحث عن العلاج، ونتمنى من فئة المتخصّصين الاجتماعيين والنفسيين المشاركة قدر الإمكان على الشبكات الاجتماعية لخلق توازن مع ظاهرة المؤثّرين التي باتت تضرب صحتنا العقلية أكثر فأكثر. وبعيداً عن هرطقات مواقع التواصل الاجتماعي، ربما تكمن الخطوة الأولى للبدء في عملية الحفاظ على صحة عقلية سليمة، في فهم كيفية تأثير كلّ جانب من الجوانب الاجتماعية المحيطة بنا على صحتنا العقلية، وعندما نفهم ماهية التأثير يمكننا البدء في رؤية الطريق إلى الأمام، وإجراء مراجعة واقعية، وفهم لوضعنا الحالي، والخطّ الأساس الذي يمنحنا سلاماً نفسياً، ثم تحديد التغييرات التي يجب إجراؤها من أجل الاستفادة الكاملة من كلّ التأثيرات. فنلقي حينها، نظرة صادقة على كلّ تأثير ومؤثّر، ونسأل أنفسنا عن مدى الرضا في كلّ مجال. وعليه يجب أن لا نتوانى عن تجاهل أيّ تأثير اجتماعي، فكلّ ما يزعجنا نفسياً وعقلياً، لسنا ملزمين به، وما هو في سياق يومياتنا علينا إيجاد السبيل الأفضل للتعامل معه.