نعم كبُر أطفال الحجارة!
أثناء وجودي في غرفة أخبار التلفزيون العربي، وأثناء متابعة عملي في تغطية عملية "طوفان الأقصى"، وردتني رسالة من صديقة في بيروت مفادها: "فرح، لا أعرف كيف سيستوعب جيش الاحتلال الإسرائيلي ما حصل"، فأجبتها "أنا لم أستوعب بعد ما حصل!".
نعم لم أستوعب ما حصل! نشأنا ووعينا وكبرنا وخرجنا إلى ميادين الحياة، ونحن نشاهد غطرسة وعربدة جيش الاحتلال الإسرائيلي وعدوانه الدائم والمُستمر على الشعب الفلسطيني، فضلاً عن الهزائم العسكرية التي ألحقها بالجيوش العربية وقدراته الأمنية وعمليات الاغتيال التي قام بها ضمن مختلف دول العالم والساحات المُتعدّدة. لقد انطبعت في أذهاننا الصورة النمطية التي عمل جيش الاحتلال على تكريسها، بأنّه "الجيش القوي الذي لا يُقهر"، وشاهدنا على مرّ السنوات تجهيزات نوعية، تطوّراً تكنولوجياً، تفوّقاً جوياً، الموساد وأجهزة الأمن الإسرائيلية "الخارقة"، والتي لا يمكن أن تتحرّك نملة على الأراضي الفلسطينية دون أن تلاحظها!
ومن جهة أخرى، وبالرغم من هذه الصورة عن الاحتلال الإسرائيلي ومؤسساته الأمنية والعسكرية لم نفقد الأمل يوماً ببسالة الشعب الفلسطيني وشجاعته وأمله باستعادة أرضه منذ أن حمل الحجارة عام 1948، إلى أن هبط مقاتلاً مجهّزاً مظلياً في مستعمرات الاحتلال.
الجيش الذي لا يقهر قُهر في أحصن حصونه، آلاف المقاتلين المشاة وعشرات الآليات حطّمت الجدار وعبرت، ومئات الصواريخ انهمرت...
ساعات طويلة والجيش الإسرائيلي يفقد السيطرة، حتّى أنّه لم يتمكن من الدفاع عن منشآته ومراكزه العسكرية. كنّا نسمع دائماً الخبراء العسكريين يردّدون أنّ الدفاع أسهل من الهجوم، وكلف الهجوم أكثر، لكن القوات الإسرائيلية لم تتمكن حتى من صدّ الهجوم، ولو بأقلّ المستويات، حالة من الصدمة والذهول أصابتهم، ألم يعلم الجندي الإسرائيلي أنّ طفل الحجارة سيكبر؟
لم نفقد الأمل يوماً ببسالة الشعب الفلسطيني وشجاعته وأمله باستعادة أرضه منذ أن حمل الحجارة، إلى أن هبط مقاتلاً مجهّزاً مظلياً في مستعمرات الاحتلال
إذا أردنا أن نحصي إنجازات العملية فمن أين نبدأ، من الصمود الأسطوري لأهل غزة، من الإرداة التي صنّعت الصوايخ والقاذفات والمظلات الجوية في ظلّ أعقد إجراءات الحصار التي تفرضها دولة الاحتلال، أم من القدرة على تعطيل أحدث أجهزة التجسّس والمراقبة على الحدود مع غزة، وسنحصي وسنحصي ولن ننتهي...
نعم، عندما أجبت صديقتي بأنّني لم أستوعب، كانت تدور في رأسي كلّ هذه الأفكار، كيف تمكّن المقاومون من صنع الأسلحة النوعية في ظلّ عدم توّفر أدنى موادها الأولية. فكّرت بالإمكانات التكنولوجية والسييرانية، وفكرت وفكرت... فكيف لي أن أستوعب؟
وإلى الساعة تعيش دولة الاحتلال الصدمة والشرذمة في اتخاذ القرارات، لأنّها تعلم أنّ لكلّ قرار أثمانه الباهظة بعدما شاهدت بأم عينها قدرات المقاومة وبسالتها، لذا هي تلجأ إلى قصف المدنيين وارتكاب المجازر، لأنها مُفلسة وخائبة.
حتماً لن تستوعب دولة الاحتلال الإسرائيلي تداعيات "طوفان الأقصى"، ما قبل العملية ليس كما بعدها، فوضعية المقاومة والقواعد اللاحقة ستكون مختلفة، وزمن التنكيل الإسرائيلي والعربدة الإسرائيلية لم تفضِ إلّا لهذه النتيجة في الوقت الذي كان العديدون ينظرون إلى التجاوزات والانتهاكات في المسجد الأقصى ومختلف المناطق الفلسطينية من قتل وأسر وتعذيب وتعدّ، ويسأل أين المقاومة؟ لماذا لا تنتقم لكلّ ما يجري؟
كانت المجموعات العسكرية والأمنية للمقاومة تُخطّط، وتراقب، وترصد، وتعدّ العدّة، وتجري المناورات الحيّة لتصل إلى هدفها وتعاقب إسرائيل على كلّ ما اقترفته بحق الشعب الفلسطيني.
الأمر الوحيد الذي استوعبته هو التحرير، وفلسطين التي سنعود إليها يوماً، وللحلم بقية...