كنت سجيناً عند الأسد

27 مارس 2018
+ الخط -
أمضى صديقنا (إسماعيل واو) خمس سنوات عجاف في سجن تدمر الرهيب، كان يتعرض، خلالها، وعلى نحو يومي، للضرب، والتعذيب، والإهانات،... وكثيراً ما كان يتمنى الموت، ولكن الموت يبتعد عنه. فيكتب على الجدار بإصبعه دون وجود قلم: كفى بك داء أن ترى الموت شافياً.

كان المكان الأقل سوءاً في السجن هو الساحة المخصصة للتمشاية، وقد سماها السجناء (التنفس)، وهي تسمية بارعة، تدل على أن هذا السجن يكتم أنفاس المعتقلين، ويوشك على خنقهم فيأتي التنفس ليبقيهم على قيد الحياة غصباً عنهم، ولكن، سرعان ما يأتي الوجع مجدداً، إذ فجأة يخطر ببال السجانين أن يخلوا الساحة فيصدر عن أحدهم إيعاز للمساجين بإخلاء الساحة بعد أن يكونوا قد ضربوا طوقاً حولها، وبعدها يبدأ العدوان عليهم، ومن يتباطأ في الخروج من الساحة يتعرض للضرب بالكابلات والسياط والجنازير..


لذلك فإن صديقنا (إسماعيل واو) كان يهرول في التمشاية عوضاً عن المشي، لأجل أن يأخذ كفايته من التنفس، ويغادر الساحة قبل أن تبدأ حفلة الضرب، وحينما يرجع إلى المهجع تنتابه حالة من المرح، وقبل دخوله إلى المهجع بخطوات يبدأ بتقليد مقطع من أغنية نجاة الصغيرة "أيظن"، وحينما يصل إلى المقطع الأخير يقول: ورجعت.. ما أخرى الرجوع إليه، ما أخرى الرجوع إليه!... ويدخل، فيجد زملاءه يبتسمون ويضحكون رغم آلامهم. فيشير إليهم أن يصغوا إليه، ويبدأ بتقليد الضباط والسجانين والعمال، كل بلهجته وصوته والتغيرات التي تطرأ على وجهه حينما يضرب المعتقل، وبالأخص ذلك السجان الذي يعض على لسانه ويضرب، وواحد يقول له: تخسا يا جلب، وواحد يقول له: اخراس يا كر، والثالث يقول: بدكن حرية؟ والرابع يضرب دون أن يتحدث فكأنه سجان أخرس.

لا يتقيد (إسماعيل واو)، أثناء الفاصل الترفيهي الذي يؤديه بعد الرجوع إلى المهجع بالعبارات التي يسمعها من السجانين أثناء ضربه وإهانته، بل يخترع عبارات قريبة منها في المعنى والمضمون.. والسجناء، رغم آلامهم، وغربتهم، والظروف اللا إنسانية التي يعيشون فيها، كانوا يضحكون بصفاء، وكأنهم جالسون في النزهة التي يسميها أهل الشام (السيران)، ويسميها أهل إدلب (السيباني)!..

ولكن.. وللأسف، حينما علم مدير السجن بهذا الأمر.. أمر بإنزال إسماعيل إلى زنزانة (منفردة) حيث أمضى بقية المدة وهو يرجع من التعذيب والإهانات إلى المنفردة ليجلس طيلة اليوم واضعاً وجهه في وجه الحائط! ومن هنا بدأت مرحلة جديدة في حياته إذ بدأ يمضي الوقت في تذكر المواقف المضحكة التي كانت تمر به قبل دخوله السجن، والمواقف التي يمكن أن تحصل بعد خروجه، وصار يتخيل الجلسات الحلوة التي يمكن أن تعقد في بيت أمه حينما يأتي الجميع ليسهروا معه، ويسلموا عليه.
خطيب بدلة
خطيب بدلة
قاص وسيناريست وصحفي سوري، له 22 كتاباً مطبوعاً وأعمال تلفزيونية وإذاعية عديدة؛ المشرف على مدوّنة " إمتاع ومؤانسة"... كما يعرف بنفسه: كاتب عادي، يسعى، منذ أربعين عاماً، أن يكتسب شيئاً من الأهمية. أصدر، لأجل ذلك كتباً، وألف تمثيليات تلفزيونية وإذاعية، وكتب المئات من المقالات الصحفية، دون جدوى...