قد تكون آفة حارتنا النسيان!

07 فبراير 2021
+ الخط -

قد تكون آفة حارتنا النسيان، لكني أحسب أن أسوأ آفاتها التناسي. والتناسي له درجات وأشكال متفاوتة، لكن نتيجته في المحصلة أن حارتنا لم تتعلم درسها ولم تستفد من تجاربها المريرة باهظة الأثمان، وهؤلاء الذين لا يتذكرون الماضي محكوم عليهم بإعادته!

فرغم نضالات المصريين العديدة لأكثر من قرن من الزمن من أجل وطن حر كريم، إلا أنه لم تتراكم في وعيهم الجمعي أو مناهجهم التاريخية ملامح واضحة لمحطات النضال تلك ولا وصلت إلى أجيالنا إلا صور مشوهة أو تصورات منكّهة عن أسبابها وعوامل فشلها.

(1)

في الفترة من 2004 إلى 2008 شاركت في مشروع بحثي لتوثيق الخبرة الوطنية المصرية في منتصف القرن الماضي، وثقنا خلاله شهادات وأجريت حوارات مع عدد من رموز الفكر والحركة الإسلامية الذين كان لهم إسهام مهم خلال هذه المرحلة التاريخية، وكانت شهاداتهم صادمة بالنسبة لي! لكنها أتاحت لي أن أقف على مسار موضوعي مختلف أو ربما مغاير أحياناً لما طالعته وتعلمته في مناهج وأدبيات وسرديات القيادات التنظيمية داخل الجماعة التي قضيت نحو 19 عاماً عاملاً في صفوفها حتى تم فصلي أنا وأصدقائي من مجموعة شباب الإخوان في الائتلاف في أعقاب الثورة..

كان أغلبهم حينها من القيادات الشابة في جماعة الإخوان، وسمعت منهم كيف آلت "الثورة" إلى "انقلاب" وكيف اجتمعوا في السجون مع الرفاق الأعداء من الحركة الشيوعية وغيرها، وأوراق النقد الذاتي والمراجعات التي أثمرتها مرحلة السجن لكن لفظها التنظيم لاحقاً، وكتب للبلد تاريخ جديد حين وصلنا - سواء - في المناهج التعليمية أو التنظيمية لكل حركة أو فصيل، كان به قدر ليس بالقليل من التزييف والاختزال والنكاية السياسية وإعادة رسم الأحداث والأدوار، وغاب عنه كثيراً السرد الموضوعي للسياقات والأسباب للمحن التي أصيب بها الوطن وليست الجماعة أو الحركة وحدها، أو عوامل الفشل الممتد على مدى أكثر من نصف قرن تمكن فيه ضباط يوليو من تجذير دولتهم وتكريس وتوريث سطوتهم على مقدرات الوطن، وهو تاريخ لم يكتبه المنتصر فقط، بل إن المهزومين يتحملون كفلاً ليس بقليل من وزر هذا التشويه والتغييب! ويا ليتنا في يناير كنا نملك وعياً لدروس التاريخ يعفينا من تكرار أخطائه

(2)

ستبقى ثورة يناير من أهم محطات النضال الوطني في مصر، والأكثر تأثيراً في تاريخها الحديث، وفخراً وشرفاً لكل من شارك فيها ومر بها، وأعظم ملهم لمن أتى بعدها، ربما لا نعرف ما سيحدث غداً أو نعجز عن قراءة ما تخبئه لنا الأيام، لكننا نعرف جيداً ما حدث، ونعلم حقيقة ما زرعناه بالأمس ونحصد ثماره اليوم.. لذلك فإن واجبنا أن نوثق ونكتب.. لا للتاريخ، ولكن للمستقبل.

فمن حق من أراد أن يخط مساراً جديداً للمستقبل أن يعرف حقيقة ما قامت به الأجيال التي امتحنت بهذه التجربة، أو لعلنا نستطيع من خلال هذا التوثيق أن نعيد قراءة مسارنا ونستدرك منه ما نصوب به خطواتنا المقبلة، وهذا أقل ما تستحقه التضحيات التي قدمت في هذا السبيل.

بدأت هذا التوثيق في أواسط عام 2011، في ظل ظروف سأمر عليها في موقعها من الشهادة، فهي ليست كلمات أحاول استدعاءها من الذاكرة الآن

 

وهناك عدد من المحاولات التي انطلقت منذ وقت مبكر لتوثيق الثورة، أعرف بعضها أو اطلعت على نماذج منه، وشاركت في مراحل من بعضها الآخر، سواء ما اعتنى بالتوثيق للأحداث والشهادات والمواقف، لفصيل أو حركة أو للحركات والقوى السياسية والثورية المختلفة، أو اهتم بالنقد الذاتي وتحليل المسار..

فهناك كتاب "ثورة مصر" للدكتور عزمي بشارة الذي نشره المركز العربي للدراسات، وكتاب "ثورة يناير.. رؤية نقدية" للباحثين عمرو عبد الرحمن وعلي الرجال وعمرو عادلي ومحمود هدهود، والذي صدر مؤخراً عن دار مرايا.

بالإضافة إلى ذلك هناك جهود لم تنشر بشكل واضح أو متكامل، منها بحث الدكتوراه لرشا لطيف "شباب التحرير.. قادة ثورة بلا قيادة" عن دور ائتلاف شباب الثورة، والذي سيصدر في كتاب قريباً، ومشروع التوثيق الذي قام به مركز الحضارة للدراسات السياسية، ومشروع للتوثيق قام به الاشتراكيون الثوريون، ومشروع النقد الذاتي للحراك الثوري في مصر بين 2011 – 2013 الذي قام به المركز العربي لتحويل النزاع والتحول الديمقراطي، وهناك عدد آخر من الجهود التي بذلت في هذا الصدد تستحق الرصد والإبراز.

(3)

لكن ورغم كل ذلك، فإنه من الضرورة بمكان أن يحرص الفاعلون في مشهد يناير على رواية سرديتهم والاحتفاظ بها حية في الأذهان وتكرارها وتردادها، ونشرها بشكل واسع ما استطعنا، لكن بشرط توخي الأمانة في الشهادة، وأن نقدم شهادتنا على الحدث كما كان لا كما أصبحنا نراه اليوم بعد ما مررنا به من خبرات وتجارب وأفكار.

ولهذه الشهادات فوائد عدة؛ فتفاصيل رواياتنا، على ما قد يشوبها من بعد شخصي، هي التي ترسم ملامح الصورة الكاملة لهذا المشهد المهيب، فالحدث الواحد له أبعاد تتنوع بأعداد من عاشوه وشاركوا فيه، لدرجة قد تصنع طبقات عدة من هذا الحدث.. ولن نرى الصورة الكاملة إلا إذا شارك الجميع بروايته.

كما أن تواتر الروايات يحافظ على وعي جمعي حي بالأحداث، والنقاش حولها يساعد على استخلاص الدروس منها، وهو ما يتجاوز حدود الفصيل أو الحركة والتنظيم. إضافة إلى أن هذا هو السبيل الأنجع في مواجهة جهود النظام لطمس وتزييف ملامح هذه المرحلة، وإخراس شهود الزور الذين لم يتورعوا عن الكذب على الأحياء.

(4)

بعيداً عن أي سياق سياسي، أوجه دعوة مخلصة للمحترمين من قيادات ورموز وفاعلين من كل تيار وحركة سياسية عامة، والذين كانوا على صلة رئيسية بالقرارات والمواقف المحورية في هذه المرحلة، أدعوهم للكتابة وتبني حالة نقاش ونقد ذاتي أمين حول الأسباب التي أوصلتنا إلى النتائج الكارثية على المستوى الوطني، وتتأكد هذه المسؤولية على من كان لهم الوزن الأكبر في المحطات المحورية في هذا المسار.

فمع الأسف الشديد، يتأكّد كل يوم أن مستقبلنا رهين الماضي، وأن ما آل إليه حال الوطن أسوأ من أسوأ الكوابيس التي كنا نخشاها، والثمن الذي دفع ويدفع مقابل الفشل، من أرواح وأعمار وتشريد عشرات الآلاف من المخلصين حقاً لهذا البلد والذين كانوا لا يرجون شيئاً إلا مستقبلاً أفضل له، وأقل ما يمكننا فعله حيال ذلك هو القيام بمراجعة صادقة ليس من المعقول أن يتم تأخيرها حتى يخرج من في السجون أو تجنبها حفاظاً على التنظيم! وهذا الواجب يتأكد الآن حيث أنشب الموت أظفاره وكل يوم يفارقنا من ندفن معه جزءاً من هذه الذاكرة.

(5)

سأبدأ في سرد شهادة شخصية متصلة ما أمكن، حول ما مررنا به في مصر من "يناير" إلى "رابعة"، مستعيناً بالله، ومعتمداً على ما لدي من وثائق تخص هذه المرحلة، وهي قد تكون أوسع من كونها شهادة على دور شخصي قمت به كواحد من مجموعة (شباب الإخوان في الائتلاف)، كما كان متعارفاً على وصفنا، وما شهدت عليه من دور ائتلاف شباب الثورة، وغيره من الفعاليات السياسية على مدار العامين ونصف، فقد قُدّر لمجموعتنا لاعتبارات عدة ملتقىً لعدد من الخيوط المختلفة في المشهد السياسي.

بدأت هذا التوثيق في أواسط عام 2011، في ظل ظروف سأمر عليها في موقعها من الشهادة، فهي ليست كلمات أحاول استدعاءها من الذاكرة الآن - والحق أن ذاكرتي بالفعل بدأ يشوبها العطب في هذا الشأن - وسألتزم الأمانة فيما أسرده، سواء فيما عاينته بنفسي أو ما تشاركته مع الزملاء في المجموعة لطبيعة التشابك في تحركاتنا المتسارعة والكثيفة في هذه المرحلة، مكتفياً بالسرد، وهادفاً لتوثيق روايتي لما أعرفه حول مسارنا ليوضع كل قرار وإجراء وموقف اتخذناه في سياقه، توضيحاً لا تبريراً.

ويهمني الإشارة هنا إلى:

- أدعو كل طرف ذي علاقة بهذه الرواية إلى الاشتباك معها وتصويب ما قد يكون جانبني الصواب فيه.

- قد يسقط مني - عن غير قصد - ذكر بعض الأشخاص الذين كان لهم دور فاعل في بعض المواقف، فمن وجد شيئاً من ذلك أرجو أن ينبهني، وقد لا يكون من المناسب ذكر أسماء كانت طرفاً في بعض الأحداث لاعتبارات أمانهم.

- إحجام البعض عن تبيان ما يعرفه من الحقائق اعتباراً لأمانات المجالس، قد لا يكون هذا سياقه الصحيح، فأمانات الدماء والخسارة الوطنية التي منينا بها أكبر.

- من حق كل قارئ أن يسعى للتحقق والتثبت، لكن أرجو أن نكون أمناء ومسؤولين في مواقفنا ولا نتحرك بدافع الخصومة فتضيع الحقائق.

وما شهدنا إلا بما علمنا، وما كنا للغيب حافظين.